يا أبتِ افعلْ ما تُؤمرْ

يا أبتِ افعلْ ما تُؤمرْ
د. جودت سرسك

قودُ القطيع وسوقُ الغنمِ مصطلحان متقابلان في مفهوم القيادة, فالقوْدُ للدابّةِ من أمامها وسوقُها مِنْ خلفها, وعليه يكون القائدُ في المقدمة.والقيادةُ قدرةٌ على التأثير على الآخرين وتوجيه السلوك والمضيّ بالأتباع قُدُماً. يستعرض مؤلف كتاب( قادة تاريخيون كبار) رموزَ قادةِ الثورات المعاصرة وإبراز الجوانب العظيمة والسمات المعبرة عنها بهدف الكشف عن عناصر الخلل التي قادتها إلى الضدِ والنقيض ممّا وعدتْ به من أهداف كالحريّة للإنسان الفردِ والإنسان الجماعة,وإلغاء الذلّ ومنهج الإفقار وليؤكد أنّ التاريخ استمرارٌ لا انقطاع فيه ابتداءً من لينين وعبد الناصر وانتهاءً بالخميني وياسر عرفات .
يحضرني مفهوم الانقياد في محكِيّة إبراهيمَ وولديه اسحق وإسماعيل في مشهدٍ يأخذك لما قبل التاريخ حيث يكسو نبيَّ الله إبراهيمَ بردةُ صوفٍ حاكها بيديه الشريفتين وعصاً احتطَبها مِن شجرةٍ مباركة في أرضٍ جفتْ ينابيعُها في وديانِ مكةَ المباركة وبراها بحجرٍ مُدبّبٍ اقتطعه من وديان الشام العنيدة كالصوّان, ولحيةٌ صافية كجدول ماءٍ رسمتها ركعاتٌ وسجداتٌ لله ترقّباً لوحيِ السماء, يا أبتِ اشدد وثاقي حتى لا أضطرب, عبارات باح بها اسحق برّا بنذر أبيه حين قدّمه قرباناً لله وفاءً بنذر نذره ,واكفف عنّي ثيابك حتى لا ينتضحَ عليها من دمي, فتراه سارةُ فتحزن, وأسرعْ مَرَّ السكينِ على حلقي فتهوّن عليّ, وإذا رجعتَ فأقريء سارةَ منّي السلام.
مَن منّا لا يحضره مشهد الأبوّة في جنبات قصة إبراهيم ومن منّا لا يشتم رائحة خصلات ابنته وثوبَ ولده والحنين إليه وهو يتذكر مشهد أبا القاسم عليه السلام محتضناً ولده إبراهيم ذا الثمانية عشر شهراً وكان يقارب عامه الستين, يطوفُ به على صحابته ويقول : هل رأيتم ولدي إبراهيم . وكأني به يشتمّ يديه ويقبّل وجنتيه ليشبع منهما ويتأمل عينيه التي لم يرهُما عليه السلام في عينيّ أبيه , يجهَرُ بصوته: هذا ولدي يا أبتِ, لقد صنعْتُه على همساتِ جبريلَ وتلاوة عائشة وتبتّل ماريّا. يضعُ السواكَ في فمه ويحنّكه تمراً ويحوطه ببُردتِه الشريفة ويرسم على كفّيه سورةَ الفلقِ قُبُلاتٍ وأنفاساً نبوية . يموتُ إبراهيمُ ويبقى دمعُ رسولِ الله على جنبات الكفن الأبيض بحجم الغيمة الممطرة ,كيف لقلبك يا رسول الله أن يضع إبراهيم الذي صنعْته في سنّ الوداع وعام الحزن, وجنيِ ثمار الفتح وسقوط الصنمِ وزوال الأوثان’ في حفرةٍ معتمةٍ ولا تودِعُ معه ألعابَه وخِرَقَه التي صنعْتها له .
كان يلقّن ابنه حين أودعه القبرَ أنْ يا إبراهيمُ إذا أتاك الملكان يسألانك من ربك؟ فقل لهما : الله. وإن سألاك من نبّيك؟ فقل لهما : أبي, محمدٌ رسول الله, كان يواسي نفسه أنه رسول الله وشفيعه وهو تحدوه عاطفة الأب وأشواقه. مات أبوك يا إبراهيم ومتّ معه ولكنّ الأبوّة لا تموت والولاء لله ورسوله لا ينقطع.
في ظلّ وباء كورونا يشعرُ المرء أنها علامات الساعة وبعثرة القبور وانكدار السماء وانحشار الوحوش فيلجأ إلى رسل الله وأوليائه علّه يحظى بشفاعتهم , وكلّما حاول الانزلاق إلى مهاوي السياسة والإدارة والعلوم البشرية والماديات ونظريات الحداثة والتفكيك والبنيوية وما بعدها يشعر بالاخفاق والعبثية والتعوّذ بالله من علمٍ لا ينفع أو رأي لا يصدع.
أبوك يا إبراهيم نبيّ الله وأبي يا إبراهيم نبيّ قلبي وشوقي الذي لا ينقطع ونسمات الرحمة في عينيّ,كان يمنحني مابقي في جيبه من قروش حمراء,كان يلملم جراحي عند أول سقوط على عتبات البيت كان يمسك بيدي عند أوّل درس حين راح وترك يدي لمدرّسٍ غريب وأبقى ليَ قلبَه يحرسني. لم ينسَ ملامحي رغم ازدحام البيت وتكاليف الحياة فكيف لي أن أنسى تجاعيد جبهته ولمعان عينيه التي كنت لا أقوى على مواجهتها.
كان أبي يخبيء مابقي له من راتبه الشهري ليواسي نفسه أمام أولاده ويكرر عبارةَ (مَنْ معُه دينار واحد )ولا يمدّ يدَه ,هو أغنى الناس . كان يتوارى من طبق الطعام الدسمِ ليترك قطع الدجاج الاثنتين ويأوي إلى جناحٍ فارغ من اللحم يلوكه طويلا متظاهراً بالمشاركة .كان يَقسِم الخبزَ ويسكبُ الشاي ويعكف على كتابة مواضيع الإنشاء التي تفوح بالوطنية وعبارات الزمن الجميل, لأبنائه ليقدموها لمدرسيهم ,كان يحملُ أكياس الخضار وحبّات القرنبيط ويحتضن بطيختين كأنهما الشمس والقمرُ ولا يترك أهلَه وصحبَه وبيته ولو قلّدوه الذهب. كان يتغنّى ب (ياجارة الوادي طربتُ وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك) ساعةَ نشراتِ الأخبار الدسمة حين كان المذياعُ يتوشّح بكوثر النشاشيبي ورسائل الشوق. إنّ الأبوة كنزٌ لا يعرفه سوى الفاقدين والمألومين . كان أبي يتغدى وينام قليلا بعد رجوعه من عمله متعبا يصلّى عصره ويبدأ بفك طلاسم بيته وحصر حاجات أبنائه, كانت حلاقةُ يديه الكريمتين والشوارع التي يخطّها في رؤوسنا التي كساها الشعَرُ ورائحة مدارس الحكومةِ المكتظة كانت أجملَ من حدائق شوارع اللويبد آنذاك , كنّا لا نعرف غير يديْه التي تعلوها البرَكة. كان يصنع الفولَ والحمّص ويلفّنا ساعات البردِ والمطرببعض الحرامات المكتنزة ,كان يحمل جلَنَ الكاز فينزلُ به من أعلى الجبل إلى رأس العين ثمّ يصعد به دون أن يشعرَ بالتعب وهو يترنّم بأشعار أحمد شوقي, كان يشدّ ربطة عنقه من تحت جاكيته الذي لبسه بعدد أيام السنة دون أن يهتريء. حين أصبحتُ كبيرا تذكّرتُ كلّ تفاصيله ومراهقاتي ونكراني للوفاء له فلم أعُدْ قادرا على اشتمام رائحة مِسكِه وعنبره,كان يعتزّ بأبنائه ويفاخر بهم ويقول أنّ واحدهم يساوي لي أموال البنك العربي ,حين قرّر السفر لولاية عبري في عُمان ليترك حارته ومدرسته وصحبه كان يدرك ما يواجهه من آلام الفراق, سافر ولم يطل سفرُه أكثر مِن ستة أشهرٍ ورجع بجهاز تلفاز حديث وبعض الهدايا والأموال التي تملأ جيبه لشهرين.حين مات يا إبراهيم أبي فجأة بعد أنْ تقاعد من عمله في سنّ الستين كأبيك وكفّنوه في كفن أبيض وأحاطوا رأسه بلفافة تخفي شوقه إلا من نظراتٍ تخبئها عيناه الوادعتان وشيء من رائحة المسك كانت الحياة تُسدِل ستارتها عن مشهدها وأحداثها وتودّع أهلها.
كلّما حاولت الكتابة في علوم السياسة يشدّني الحنين إلى أبي .لقد جفت مآقينا وينابيع الحنين فينا في وسط معمعات القرن وقرارات السياسيين وسقوط الدول العربية تباعاً والخوف على الأنظمة التي لم تسقط وأخبار الحروب وسفك الدم . يا أبتِ افعل ما تؤمرْ , منهجُ حياة حين تثق بأبيك وقائدك ومسؤوليك.
J_sh_s@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. اسماعيل عليه السلام وليس اسحق عليه السلام !!!

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى