سنة حلوة يا جميـل !

سنة حلوة يا جميـــل !
بسام الياسين

جلس الموظف جميل، بصلعته البراقة المفلطحة كحبة يقطين ضربها العفن،مرتدياً دشداشته الكالحة وكأنها من مخلفات الحرب العالمية، ماطاً بوزه، كأن جأئحة اطاحت بسلسلة عقاراته الضخمة، مع ان بيته متهالك و مستأجر و هو على وشك الطرد بحكم قضائي حسب القانون الجديد.تناول الريموت للبحث عن فضائية مسلية، للهرب من افكاره السوداء التي ضعطت صدره كحبة زيتون بين فكي معصرة هيدروليكية. لاح امامه مشهد ، صبايا شبه عاريات،العابا نارية،موسيقى صاخبة، احتفالاً بالسنة الجديدة…الكل يرقص بينما هو يتكور على نفسه مثل حصان هزيل يحتضر تخلى عنه صاحبه بعد ان باع العربة التي يجرها،وافتتح بقالة. ساعتئذِ تمنى، لو ان امه تمنّعت تلك الليلة عن الاستجابة لرغبة والده المحمومة،لما اتى لهذه الدنيا التعسة…لكنها حكمة الله.

راس السنة فجر ،خبايا ذاكرته،فتساقطت الصورعلى مخيلته. طفولته البائسة ،مراهقته المحرومة،حذاءه المثقوب.حينئذٍ،انهمرت دموعه مع احساس بفراغ وعزلة.ازدادت تعاسته، حين شعر ان عاموده الفقري احدودب كـ ـ قوس ربابة ـ ،تقطّعت اوتارها،فخرجت من الخدمة لانها لا يُرجى صلاحها او اصلاحها ،ـ وهو الذي كان ـ رياضياً يفيض قوة وحيوية ـ .فحياته الرتيبة في وزارة خدمية، السلف بنكية،تقصف عمره.فادرك انه كأئن،يعيش خارج التاريخ والجغرافيا.

راتب محدود.متطلبات كثيرة.التزامات مرهقة.اولاد في الجامعات وبعضهم في الصفوف الثانوية.عوامل ضاغطة،رفعت ضغطه وشاط السكري عنده لمستوى خطر.ما زاد الطين بلة،تذكره نصيحة الطبيب في آخر مراجعة له، بالتوقف الفوري عن تناول ” الهريسة “،وهي الشيء الحلو الباقي في حياته المريرة. في تلك الاثناء،شعر بضيق نفس،وتسارع في نبضات قلبه،مرفوقا بعرق غزير يتفصّد من جسده رغم اربيعنية الشتاء القارسة.

.حاول الصراخ، لاستدعاء الام او احد الاولاد المشغولين باحداث راس السنة تلفزيونيا. لم يستطع لفقدان صوته…عرف انها جلطة .القى بجسده المنهك على الحصيرة لعله يتخلص من ضيق التنفس الذي اخذ يمزق صدره، ما لبث بعدها قليلاً ،حتى ذهب في شبه غيبوبة.

راى كل شيء يدور،سقف الغرفة يدور، زوجته تدور، اولاده يدورون وهم يتحلقون حوله. رمقهم بنظرات زائغة، محاولاً ان يشرح لهم علته…الا انه شهق شهقة الوداع الاخير..همد بعدها جسده، النحيل، معلناً نهايته،كأنما الرجل على عجلة من امره، لا يريد استقبال عام 2021 .اخذت الام تندبه :ـ ـ يا ويلي عليه…. ما شاف يوم حلو بحياته … حتى الهريسة… حرمّوما عليه .

تراكض الاولاد في كل الاتجاهات ،لا يدرون ماذا يفعلون…فاستنجد احدهم بالجار المزمن، ابو العبد، صديق العائلة الذي هُرع حافياً الى حيت الجسد المسجى. وصل وهو يلهث بسبب شيخوخته …قال متمتماً :ـ رحمة الله عليك يا جميل،تذكرني بـاخيك “جبر الي طلع من كم امه للقبر.

ابو العبد،الجار الوفي. شدد على الاولاد، البقاء الى جانب الجثة، حتى لا تسلل القطط ،فتأكل آذان المرحوم قائلاً :ـ مش معقول جميل الجميل، يلاقي ربه بلا اذنين.خصوصاً ولنا في الحارة، سابقة اليمة، يوم سقط بكري بائع الالبان في بقالته ميتاً، وجدنا المسكين في اليوم التالي، وقد قرقطت القطط آذانه،وتسللت من تحت دشداشته، والتهمت كل “طري” فيه” حيث فسرها العامة،انه عقاب رباني لبكري لان شيخوخته غير بريئة..ثم طلب منهم قرآءة القران، فالمكان الان ممعمور بالملائكة و تمديده جسده للفبلة حسب السُّنة. في الصباح، جاء الامام لغسله،وعندما رفعوه على دكة غسل الموتى،سقطت من جيبة ورقة،التقطها ابو العبد، واخذ يقلبها بين يديه وناولها للابن الاكبر لقرآئتها امام الجيمع ـ لانها ربما تكون الوصية.

كانت الرسالة، مكتوبة بخط مرتعش،هي على الاغلب تداعيات جميل المازوم.حاول القرآءة الا ان دموعه حبست حنجرته،لكنه تشجع وتوجه بنظراته للجار :ـ ( اولادي الاحباء،حين تصبح حياة” الفرد شقاءً دائماً . فثمة خطأ جسيم في تربيته،اما حين يعيش المجتمع كله في شقاء مُقيم باستثناء ـ النخبة المدللة التي تساقطت علينا بالصدفة ـ ،فثمة خطيئة قاتلة، اقترفها الممسكون بالدفة. تراهم بارعين في ( الحصيدة ) وفاشلين في ( القيادة ).فالخالق العظيم لم يخلقنا للمصارعة،والركض خلف اللقمة حتى تتقطع انفاسنا.لذلك انا المواطن الغلبان جميل، افضل الموت في الثانية الاخيرة من عام 2020 ولا ذل السؤال والطرد من المنزل في عام 2021.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى