روح الثورات العربية / حسن أبو هنية

روح الثورات العربية

تشير الحراكات والاحتجاجات والانتفاضات الثورية العربية الراهنة؛ إلى أن روح الثورات العربية التي نفثت في العالم العربي 2011 لا تزال نابضة بالحياة، فالجسد العربي الذي أنهكته سياط جلادي الثورات المضادة، حتى خالته ميتا، يشق طريقة نحو التعافي.

وللمفارقة، فإن السلطويات العربية الشمولية وعلى رأسها السعودية والإمارات، التي تولت كبر قيادة الثورات المضادة لتعزيز سلطويات مماثلة، قد أصابها الوهن واستنزفت هيبتها وطاقاتها وأموالها، وأصبحت في حالة يرثى لها وفي وضعية تثير الشفقة، وهي اليوم في أمسّ الحاجة للإنقاذ. إذ بات اليمن ثقبا أسود، وأصبحت ليبيا مستنقعا للغرق. ذلك أن هذه السلطويات عوضا عن إدارة وتنظيم الحياة؛ عمدت إلى إدارة وتنظيم الموت، بينما روح الثورة أخذت تسري في أجزاء الجسد العربي الذي تعرض لعمليات التشويه ومحاولة البتر.

السلطويات العربية الشمولية وعلى رأسها السعودية والإمارات، التي تولت كبر قيادة الثورات المضادة لتعزيز سلطويات مماثلة، قد أصابها الوهن واستنزفت هيبتها وطاقاتها وأموالها، وأصبحت في حالة يرثى لها

مقالات ذات صلة

لا يبدو العالم العربي استثناء في تاريخ الثورات والثورات المضادة، فالثورة الفرنسية استمرت 10 سنوات عقب انقضاض فئة قليلة مكروهة على زمام الأمور في الجمهورية، متذرعة بآلاف الحيل والوسائل للبقاء في السلطة، ولما صار ذلك متعذرا إلا بالإرهاب أخذت هذه الزمرة تقضي على كل من كانت تظن أنه مخالف لها، ولو كان من أشد خدم الثورة الفرنسية إخلاصا، وهي صورة تتشابه مع الحالة المصرية رغم اختلاف السياقات. فبعد أن أحكم الاتقلاب العسكرية قبضته على السلطة 2013، وبنى جدرانا من الخوف، يفاجأ اليوم بمنطق الثورة، التي لا أفق في توقعاتها وماهية محركاتها، حيث شهدت مدن مصرية عديدة بينها القاهرة والإسكندرية مساء الجمعة (20 أيلول/ سبتمبر 2019) احتجاجات طالب خلالها المحتجون برحيل الرئيس عبد الفتاح السيسي، استجابةً لدعوات تمّ إطلاقها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ولا سيّما من جانب الفنان ورجل الأعمال المصري في المنفى محمّد علي.

إن منطق الثورة يستعصي على الحسابات العقلية الباردة، ذلك أن للثورة روحا لا تخضع للحواس الظاهرة، إذ يؤكد غوستاف لوبون في كتابه الكلاسيكي الشهير”روح الثورات والثورة الفرنسية” أن الثورات لا يمكن تفسيرها بالمنطق العقلي وحده، ذلك أن هذا المنطق هو بالأساس ضعيف التأثير في تكوينها، رغم أن الثورات “تقوم على أساس عوامل عقلية، كرغبة في القضاء على ظلم، أو دحر استبداد، أو إزاحة سلطان لملك مبغوض من شعبه”.

باستحضار سياقات انطلاق “الثورات العربية”، حسب امحمد مالكي، نلمس حضور مثل هذه العوامل والمقاصد. فالشعارات والمطالب كانت موحدة ومُجمعة على إسقاط السلطة السياسية السائدة، وإعادة بناء شرعية سياسية جديدة تجُبّ الأولى، وتقطع مع إرثها، وتؤسس نمطا مغايراً لإدارة حكم الناس وتدبير شؤونهم العامة. فروح الثورة الفرنسية، التي كتب عنها “لوبون”، تجسّدت في كونها كسّرت دعامتين رئيستين من دعامات ما يسميه الفرنسيون “النظام القديم”، وأعادوا بناء النظام الجديد، أي نظام ما بعد الثورة (1789)، على أسس مغايرة. ألغوا نظام الولاء للملك، بوصفه شخصاً طبيعيا، وأقاموا محله نظام الولاء للدولة، بحسبها شخصا معنوياً عاما، موسوماً بالديمومة والاستمرار. وهذا ما أتاح لهم مباشرة إمكانية إسقاط مفهوم “الرعيّة” من لغتهم وثقافتهم السياسية، وأحلّوا محله مفهوما جديداً، هو مفهوم “المواطنة” أو “المواطن”. ومن هنا نفهم لماذا صدرت عن الثورة وثيقتان تاريخيتان، هما: بيان الثورة، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن.

الشعارات والمطالب كانت موحدة ومُجمعة على إسقاط السلطة السياسية السائدة، وإعادة بناء شرعية سياسية جديدة تجُبّ الأولى، وتقطع مع إرثها، وتؤسس نمطا مغايراً لإدارة حكم الناس وتدبير شؤونهم العامة

لم تتمكن السلطويات العربية عبر الثورات المضادة من الاحتفال بنصر نهائي وقتل روح الثورة، فكلما خبت الحراكات الاحتجاجية في ركن من العالم العربي اشتعلت في مكان آخر. ففي الوقت الذي بدا فيه أن الثورة المضادة تحرز نجاحا في مصر وسوريا وليبيا واليمن والعراق، تقدم السودان والجزائر بانتفاضات شعبية تطالب بإسقاط النظام، وسرعان ما تومض شرارة في مصر، وتكشفت أسطورة خلق الاستقرار وخرافة الازدهار عن وهم كبير وخديعة أكبر، “فالدرس الذي تبنّته السلطويات العسكرية العربية هو أنها لم تمارس ما يكفي من العنف لخنق مجتمعاتها بالكامل، وهو ما أعادت الشعوب العربية اكتشافه ما بعد الانقلابات العسكرية”.

لقد باتت الشعوب العربية أكثر وعيا بأعدائها وخصومها، وأكثر فهما لبنية الأنظمة العسكرية الحاكمة وألاعيبها، حيث تواجه النخب العسكرية النيوليبرالية العربية نوعا مختلفا من الشعوب لم تعد تقنع بالاستراتجيات العسكرية التي تتعامل مع السياسة كساحة حرب وخداع. ففي الجزائر فشلت تكتيكات العسكر، ويوشك الشعب أن يرسخ حكما مدنيا دون مراوغة، وفي السودان خضع المجلس العسكري لمطلب المشاركة المرحلية، وفي تونس تصر الجماهير على اخنيار رجل مدني راديكالي يحرس الثورة ويقدس المواطن.

باتت الشعوب العربية أكثر وعيا بأعدائها وخصومها، وأكثر فهما لبنية الأنظمة العسكرية الحاكمة وألاعيبها

يقدم آدم هنيّة في كتابه “سلالات التمرد” تحليلا عميقا للمنطقة العربية، باعتباره خلفية لفهم الانتفاضات العربية، ويشرح جوهر النظام الاجتماعي في المنطقة، من خلال رسم أنماط تراكم رأس المال، وبنية الطبقة والدولة، وترابط ذلك كله مع الرأسمالية العالمية. وفي سياق شرح عوامل مختلفة طبعت ثورة كل دولة بالتفصيل، يشدّد هنية على الموضوع الموحد المنبثق عن الانتفاضات، ذلك أنّ الحركات الشعبية جسّدت ما هو أكثر بكثير من إطاحة الطغاة المكروهين. فالتركيز على المظهر السطحي للتظاهرات يحجب فحواها الحقيقي، “فالمعركة ضد الاستبداد السياسي مرتبطة حتماً بديناميكية الصراع الطبقي. وبذلك لم تعكس هذه الانتفاضات مجرد أزمة تتعلق بشرعية النظام أو قلقاً على الحرية السياسية وحسب، إنما كانت في جذورها، تواجه نتائج التطور الرأسمالي بحد ذاته”. وهو ما أفضى في العالم العربي إلى ولادة النظام العسكري النيوليبرالي. فالأسباب التي دفعت بالناس إلى الشوارع كانت مرتبطة بعمق بأشكال الرأسمالية في المنطقة: عقود على إعادة الهيكلة النيوليبرالية للاقتصاد، وتأثير الأزمات العالمية وكيفية حكم الدول العربية من قبل أنظمة استبدادية، أمنية وعسكرية، بدعم من القوى الغربية.

ثمة سمات مشتركة للأنظمة العربية المعاصرة، ومن أهمها هيمنة العسكرية النيوليبرالية. وقد درست زينب أبو المجد، الأستاذة المساعدة في تاريخ الشرق الأوسط في “أوبرلين كولدج”، الحالة السودانية في عنوان لافت “رجال أعمال ببدلات عسكرية”، وتناولت الحالة المصرية في كتابها الأخير”عسكرة الأمة: الجيش والتجارة والثورة في مصر”. وتشير الحالة الجزائرية إلى ذات المنحى، وتوضح أبو المجد كيفية تمكّن القوات المسلحة المصرية من التكيّف مع التغيرات العديدة التي مرت بمصر منذ الانقلاب العسكري الأول عام 1952، والذي استحال ثورة في السنوات اللاحقة، حيث ارتبط العسكر بأحوال الفئات المعدمة والفقيرة وذات الدخل المحدود واتبع نظاماً اشتراكياً، لمنحها حقوقاً لم تحصل عليها قبلاً. مرحلة التغير الثانية (وفق الكاتبة) هي مرحلة الانفتاح الساداتية التي ركزت على ثقافة الاستهلاك. المرحلة الثالثة هي مرحلة المخلوع حسني مبارك التي انتقلت فيها مصر إلى مرحلة النيوليبرالية المتوحشة.

تتبع أبو المجد آليات السيطرة والهيمنة التي تتبعها القوات المسلحة المصرية، وتشرح وجودها الطاغي في مختلف مناحي الحياة، وتبيّن كيف حوّلت المؤسسة العسكرية المجتمع إلى معسكر خاضع لرقابتها الدائمة. فالقوات المسلحة المصرية الحالية تسيطر عليها مجموعة من مديري الأعمال العسكريين، أو ما تطلق عليه اسم “ضباط نيوليبراليين” يهيمنون على المجتمع عبر السيطرة على السوق.

وتشير إلى نقطة الاختلاف الرئيسة التي تتعلق بالعقيدة. فبينما كانت عقيدة القوات المسلحة الأولى ذات هوية قومية عربية واشتراكية ومرتبطة بالأمور الإقليمية، فإن عقيدة القوات المسلحة المصرية الحالية ضيّقة وتركز على العصبية المصرية والأمور الداخلية، وتتبع هذا الانقطاع وولادة الضباط النيوليبراليين الذين يتميزون بمركز ثقل في رسم سياسات البلاد. فولادة هؤلاء الضباط النيوليبراليين، تمت عند تحويل مصر إلى دولة رأسمالية نيوليبرالية تحت حكم المخلوع حسني مبارك.

بينما كانت عقيدة القوات المسلحة الأولى ذات هوية قومية عربية واشتراكية ومرتبطة بالأمور الإقليمية، فإن عقيدة القوات المسلحة المصرية الحالية ضيّقة وتركز على العصبية المصرية والأمور الداخلية

تشدد زينب أبو المجد على أنّ هدف انصراف القوات المسلحة إلى الأعمال لم يكن فقط لتحصيل الأرباح ومراكمة المصادر، فبطرق باب سوق استهلاك الطبقات كافة والتحكم في مجالاتها المدينية، فإن أولئك الجنرالات تمكنوا من تأسيس مراقبتهم الكاملة للمجتمع، مع التطلع للسيطرة الكاملة عليه، وهي تستند إلى نظرية ميشيل فوكو حول “المجتمع الانضباطي” التي بلورها في كتابه “المراقبة والعقاب”، حيث تشرح كيف أن الدولة عملت على مراقبة الشعب على نحو كامل بهدف خلق مجتمع منضبط ومذعِن. فمؤسسات القوات المسلحة المصرية حولت المجتمع ومحيطه إلى معسكر دائم، حيث يخضع كل مواطن لعين الضابط العلنية والخفية، ويُسَوَّغ ذلك كله بالحاجة إلى ضمان الأمن وحماية الأمة.

إنه لمن السذاجة أن نتصور حكما عسكريا يتخلى عن الحكم بسهولة، ومن الغباء أن يترك العسكر وحدهم لإدارة مرحلة انتقالية زمن الثورة؛ تحت ذريعة خلق الاستقرار وضمان قيادة مستقرة وفعالة وكفؤة خشية من الفوضى. فحسب لورانس ويلكرسون، أستاذ نظام الحكم في كلية وليم وماري في ولاية فيرجينيا، فإنه “حتى أولئك الذين يقبلون التخلي مؤقتا عن الحريات الأساسية والمهمة مثل حرية التعبير؛ قد يشعرون بخيبة أمل إذا تولى جنرالات عسكريون شؤون بلدانهم”. فبالنسبة لويلكرسون، وهو من قدامى المحاربين وخدم لمدة 31 عاما في الجيش الأمريكي، فإن التاريخ يبيّن أن الجيش لا يستطيع تأمين الوظائف والازدهار الاقتصادي، وغير ذلك من الضروريات التي يريدها المواطنون. ويستنتج قائلاً: “إن الإدارة العسكرية، بغض النظر عن عدد المرات التي تولّت فيها الحكم عبر التاريخ، قد فشلت وستفشل؛ لأنها ببساطة لا تستطيع القيام بذلك”.

في الحالة العربية يبدو الفشل ذريعا والفساد عريضا، ومن الصعب أخذ تحليل فوكو على عواهنه، ذلك أن تنظيراته جاءت في سياقات غربية. فالنظام العربي سلطوي هجين، لا يزال يحتفظ بسمات السلطوي “الغبي” ثقيل الحركة والقمعيالذي يفرض جبراً طقوساً للطاعة والولاء غالباً ما تكون من طبيعة فيزيولوجية جسدية، ومع ذلك ينشد فرض سلطته على الروح، إذ تبدو تطبيقات السلطوية العربية للسياسات الحيوية الفوكودية لا نظير لها. ففي الحالة الغربية، الظاهر أن فوكو نفسه كان قد تنبّه إلى التغير الذي طرأ على بنية السلطة الليبرالية في أواخر أيامه، في نهاية الثمانينات.

وحسب سلافوي جيجك، فقد لاحظ فوكو تحول سياساته الحيوية إلى مقولة لا تأخذ في الحسبان الانتقال الاجتماعي والسياسي الخطير الذي كان يحدث من الجسد إلى الروح، من البيولوجي إلى البسيكولوجي.

الانتفاضات والاحتجاجات والحراكات في العالم العربي عموما، وفي مصر خصوصا، تشير إلى أن روح ثورات الربيع العربي لم تسلب، وتشرح مداخلات محمد علي جوانب مهمة من بنية السلطة العسكرية وماهية الثورة المدنية

فحسب الفيلسوف الألماني بيونغ شول هان، فإن “الحافز، المشروع، المنافسة، النزوع إلى الأمثلة والمبادرة تشكل جميعها جزءاً من تقنية السياسة البسيكولوجية للهيمنة المميزة للنظام النيوليبرالي”، فالتحول من النظام”الغبي” إلى النظام “الذكي” الخفيف والإباحي هو ما يجعل الناس يُخضعون أنفسهم بأنفسهم إلى طقوس هيمنة يعتبرونها، بالعكس، أدواتٍ للتعبير عن حرياتهم.

خلاصة القول أن الانتفاضات والاحتجاجات والحراكات في العالم العربي عموما، وفي مصر خصوصا، تشير إلى أن روح ثورات الربيع العربي لم تسلب، وتشرح مداخلات محمد علي جوانب مهمة من بنية السلطة العسكرية وماهية الثورة المدنية بلغة بسيطة للمبتدئين، ولذلك كان أثرها بالغا ومباشرا، ورغم الكلفة الباهظة للثورة والتغيير في ظل أنظمة تقودها نخب عسكرية نيوليبرالية سوف تدافع عن مصالحها حتى الرمق الأخير، فإن بنية هذه المؤسسة تجعلها براغماتية أيضا، وللحفاظ على تماسكها تتخلى بسهولة عن بعض جنرالاتها، بل وقد تنكل بهم. ذلك ما حدث في السودان والجزائر، ومصر على سنتهما، فالشعب العربي هو جسد الثوره وروحها، وقد شرع في تحديد مصيره، وفرض رؤيته وقدره.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى