رمضان شهر نزول القرآن الكريم والكتب السماوية

رمضان شهر نزول القرآن الكريم والكتب السماوية

ماجد دودين

يا له من شهر طيب مبارك اختاره الله لنزول الكتب السماوية فيه.

قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” – نزَلَتْ صُحُفُ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلَ ليلةٍ مِن رمَضانَ، وأُنزِلَتِ التَّوراةُ لسِتٍّ مضَيْنَ مِن رمَضانَ، وأُنزِلَ الإنجيلُ لثلاثَ عَشْرَةَ خلَتْ مِن رمَضانَ، وأُنزِلَ الزَّبُورُ لثمانَ عَشْرَةَ خلَتْ مِن رمَضانَ، والقُرْآنُ لأربعٍ وعِشرينَ خلَتْ مِن رمَضانَ. “حديث حسن”.

مقالات ذات صلة

قال تعالى:” شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ” [البقرة: 185]، وقال تعالى:” إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ” [القدر:1].

وقال تعالى:” إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ” [الدخان: 3].

قال ابن جرير الطبري: “نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان ثم أنزل إلى محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على ما أراد الله إنزاله إليه”.

عن ابن عباس قال: “أنزل القرآن جملة من الذكر” …أي اللوح المحفوظ”، في ليلة أربع وعشرين من رمضان “…وهي عند ابن عباس ليلة القدر” فجُعِل في بيت العزة.

وعن سعيد بن جبير: نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان فجعل في السماء الدنيا.

وعن ابن عباس: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا، جملة واحدة، ثم فرّق في السنين بعدُ. وتلا ابن عباس هذه الآية. “…فلا أقسم بمواقع النجوم” [الواقعة: 75] قال: نزل مفرقاً.

والقرآن: “كتاب هذه الأمة الخالد، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور فأنشأها النشأة وبدَّلها من بعد خوفها أمناً، ومكَّن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي بها صارت أمة، ولم تكن من قبل شيئاً، وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض، ولا ذكر في السماء، فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن”.

القرآن كتاب هذه الأمة، هو روحها وباعثها، وقوامها وكيانها، وهو حارسها وراعيها، هو بيانها وترجمانها، هو دستورها ومنهجها، وهو زاد الطريق.

وكم صدوا عن سبيله صداً، ومن ذا يدافع السيل إذا هدر؛ واعترضوه بالألسنة ردا، ولعمري من يرد على الله القدر؟

وأثاروا من الباطل في بيضاء ليلها كنهارها ليجعلوا نهارها كالليل، فما كان لهم إلا ما قال الله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)

ألفاظ القرآن إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها وتصف الآخرة فمنها جنتها، ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب، وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعَد من حمى القلوب.

القرآن معان عذبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان. . .وبينا هي ترف بندى الحياة على زهرة الضمير، وتخلق في أوراقها من معاني العبرة معنى العبير، وتهب عليها بأنفس الرحمة فتَنِم بسر هذا العالم الصغير. . . ثم بينا هي تتساقط من الأفواه تساقط الدموع من الأجفان، وتدع القلب من الخشوع كأنه جنازة ينوح عليها اللسان، وتمثل للمذنب حقيقة الإنسانية حتى يظن أنه صنف آخر من الإنسان – إذ هي بعد ذلك إطباق السحاب وقد انهارت قَواعده والتمعَت ناره وقصفت في الجو رواعده، وإذ هي السماء وقد أخذت على الأرض ذنبَها، واستأذنت في صدمة الفزع ربها، فكادت ترجف الراجفة تتبعها الرادفة: وإنَّما هي عند ذلك زجرة واحدة: فإذا الخلق طعام الفناء وإذا الأرض “مائدة”.

توهموا السحر ما توهموه، فلما أنزل الله كتابه قالوا: هذا هو السحر المبين. وكانوا يأخذون في ذلك بباطن الظن فأخذوا هذا بحق اليقين (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ).

يقولون مجنون بعض آلهتنا اعتراه، وأساطير الأولين اكتتبها أم يقولون افتراه، بلى إن العقل الكبير في كماله ليتمثلُ في العقول الصغيرة كأنه جنون، وإن النجم المنير فوق هلاله ليظهر في العيون القصيرة كأنه نقطة فوق نون، وهل رأوا إلا كلاماً تضيء ألفاظه كالمصابيح، فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح يريدون أن يطفئوا نور الله وأين سراجُ النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب تُطفيه، ونور القمر من كف يحسب صاحبها أنها في حجمه فيرفعها كأنما يخفيه!

لا جَرَمَ أن القرآن سر السماء فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول. ومعنى الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول، وكذلك تمادى العرب في طغيانهم يعمهون، وظلت آياته تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون.

نزول القرآن على قلب نبينا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أعظم النعم

قال تعالى: “أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (العنكبوت:51].

أولم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن، يشعرهم أن عين الله عليهم، وأنه معني بهم يتنزل عليهم، يحدثهم بما في نفوسهم، وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير.

والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم ثم هم لا يكتفون… إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون.

الذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل، ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير.

وهم الذين ينفعهم هذا القرآن، لأنه يحيا في قلوبهم، ويفتح لهم عن كنوزه، ويمنحهم ذخائره ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور.

الإيمان بكلام الله والعيش معه طمأنينة في القلب واستقامة على الطريق، وثبات على الدرب، وثقة بالسند، واطمئنان للحمى، ويقين بالعاقبة. قال تعالى: “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ” [يونس: 58]. وقال تعالى: “…اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ” [الزمر: 23].

الحياة مع القرآن نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه. أي تكريم للإنسان يفوق هذا التكريم العلوي الجليل.

“الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا” [الكهف:1]. أي نعمة أعظم من نعمة نزول القرآن.. نعمة لا يسعها حمد البشر فحمد الله نفسه على هذه النعمة.

أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل، أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان القليل الصغير خالقه الكريم.

قال تعالى: “…وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا” [النساء: 113]. هي منة الله على الإنسان في هذه الأرض.. المنة التي ولد الإنسان معها ميلاداً جديداً، ونشأ بها الإنسان نشأة جديدة. المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية لترقى بها في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة على طريق المنهج الرباني الفريد العجيب.

وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فلأنه أول من عرفها، وذاقها وأكبر من عرفها وذاقها، وأعرف من عرفها وذاقها، قال تعالى: “…ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين” الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته، القلب المؤمن يدرك قيمة الاهتداء بعد الضلال قيمة الرؤية الواضحة بعد الغبش قيمة الاستقامة على الدرب بعد الحيرة، قيمة الطمأنينة للحق بعد الأرجحة، قيمة التحرر من العبودية للعبيد بالعبودية لله وحده، قيمة الدرب المستقيم بدلاً من التخبط في المنعرجات المظلمة، كما يشفق من ذاق نداوة الظلال أن يعود إلى الهجير القائظ.

وفي بشاشة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق جفاف الإلحاد وشقاوته المريرة، وفي طمأنينة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق شقوة الشرود والضلال”. لقد سمى الله كتابه روحاً لتوقف الحياة الحقيقية عليه “واعجبا للناس يبكون على من مات جسده ولا يبكون على من مات قلبه وهو أشد… وموت القلوب بالبعد عن علام الغيوب”. وسمّاه نوراً لأن القلوب لا تضيء ولا تشرق إلا بالقرآن.قال تعالى: ” وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” [الشورى: 52]. وقال تعالى: “قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” [المائدة: 15، 16]. “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” [الرعد: 28].

“ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم.. يعرفونها ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام.

وليس أشقى على وجه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتور الصلة بما حوله في الكون، لأنه انفصم من العروة التي تربطه بالله، ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه وحيداً شارداً في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين.

“وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ” [الرعد: 31].

هذا القرآن العجيب، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض أو يكلم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات، ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء. ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثاراً في أقدار الحياة، بل أبعد أثراً في شكل الأرض ذاته، فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ.

الذين تلقوه وتكيفوا به سيّروا ما هو أضخم من الجبال وهو تاريخ الأمم والأجيال وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد، وأحيوا ما هو أخمد من الموتى، وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام.

“إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم” [الإسراء: 9]. يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بين ظاهر الإنسان وباطنه، في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، في علاقات الناس بعضهم ببعض.

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)” [الإسراء: 82]. في القرآن شفاء، وفي القرآن رحمة، لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان فأشرقت، وتفتحت لتلقى ما في القرآن من روح وطمأنينة وأمان.

في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة، فهو يصل القلب بالله، فيرضى ويستروح الرضا من الله والرضى عن الحياة، والقلق مرض، والحيرة نَصَبٌ، والوسوسة داء، ومن ثم هو رحمة للمؤمنين. وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان. وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير فهو يعصم العقل من الشطط. وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء المجتمعات. “ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين” [الزخرف: 36].

“ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى” [طه: 124]. الحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة؛ ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع. إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه…. ضنك الحيرة والقلق والشك…. ضنك الحرص والحذر: الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت…. ضنك الجري وراء بارق المطالع والحسرة على كل ما يفوت.

لقد أسرف من أعرض عن ذكر ربه فألقى بالهدى من بين يديه، وهو أنفس ثراء وذخر.

“ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق” [الحديد: 16].

لا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور وأن يخشع لذكر الله، فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار، وكذلك القلوب حين يشاء الله. وفي هذا القرآن ما يُحيي القلوب كما تحيا الأرض وما يمدها بالغذاء والري والدفء.

قال تعالى: “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله” الآية [الحشر: 21].

“…وبالحق أنزلناه وبالحق نزل” [الإسراء: 105].

لقد أنزل الله هذا القرآن قائماً على الحق منزل ليقر الحق في الأرض ويثبته.. “…وبالحق نزل” فالحق مادته والحق غايته، ومن الحق قوامه، وبالحق اهتمامه.. الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود.

“…قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا” [الإسراء: 107، 108].

“هم لا يسجدون ولكن “…يخرون للأذقان سجداً” لا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوره الألفاظ. “هذا أثر القرآن في القلوب المتفتحة لاستقبال فيضه، العارفة بطبيعته وقيمته”. “إني لأعجب لقرّاء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن، أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رُزقوا”.

في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة”.

قال ابن رجب: “دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان”.

وفى حديث فاطمةَ عليها السلام عن أبيها – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين. وفي حديث ابن عباس “…رضي الله عنهما” أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى: “…إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً” [المزمل: 6]. … فكتاب الله أفضل مؤانس وسميرك إذا احلولكت ظلمة الحنادس.

قال تعالى: ” إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ” [فاطر: 29-30].

قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” إنَّ أفْضَلَكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ. ” . وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “الماهِرُ بالقرآنِ مع السفرَةِ الكرامِ البرَرَةِ، والذي يقرؤُهُ ويتَعْتَعُ فيهِ وهو عليه شاقٌّ لَهُ أجرانِ “. وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” يُقالُ لِصاحبِ القرآنِ: اقرَأْ، وارْقَ، ورتِّلْ، كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا؛ فإنَّ مَنزِلتَك عندَ آخِرِ آيةٍ تقرَؤها.” وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقابِرَ، إنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الذي تُقْرَأُ فيه سُورَةُ البَقَرَةِ. “وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” إنَّ للهِ أهلين من النَّاسِ. قالوا: يا رسولَ اللهِ من هم؟ قال: هم أهلُ القرآنِ، أهلُ اللهِ وخاصَّتُه “

“كان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة”. والشافعي قال عنه ربيع بن سليمان: “كان محمد بن إدريس الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة، ما منها شيء إلا في صلاة”. وكانت عائشة “…رضي الله عنها” تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت.

“وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصاً في الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان، وهو قول أحمد، وإسحاق وغيرهما من الأئمة وعليه يدل عمل غيرهم “.

قال ابن مسعود: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، ونهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون.

قال أحمد بن الحواري: إني لأقرأ القرآن وانظر في آية فيحير عقلي بها، وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الله، أما إنهم لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحاً بما رزقوا.

وأنشد ذو النون المصريّ:

منع القرآن بوعده ووعيده … مقل العيون بليلها لا تهجع

فهموا عن الملك الكريم كلامه … فهماً تذل له الرقاب وتخضع

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى