حال المؤسسة حين يشبه حال عبدالودود في فيلم الحدود

حال المؤسسة حين يشبه حال عبدالودود في فيلم الحدود
د.عبدالحكيم الحسبان

في العام 1984 قدم الثنائي السوري المبدع دريد لحام- محمد الماغوط رائعتهما السينمائية التي حملت عنوان “الحدود” وقدما من خلالها شخصية جديدة، هي شخصية المواطن عبدالودود. قصة فيلم الحدود تتمحور حول شخصية مواطن يتسم بكثير من الدماثة واللطف والود عزم على الانتقال بين بلدين عربيين، فيفقد وثيقة سفره التي تمكنه من عبور الحدود الفاصلة بين الدولتين، فيجد نفسه عالقا في المنطقة الحرام بينهما، فلا هو في هذه الدولة، ولا هو في تلك.
يعيش عبود أوضاعا إنسانية مأساوية ولكنه يقابلها بصدر رحب. ومع الوقت يسمع العالم بمأساة عبدالودود الذي يعيش ظروفا إنسانية مأساوية، ففي الخيمة التي تأويه في المنطقة الحرام بين حدود شرق ستان وغرب ستان، لا ماء ولا كهرباء ولا طعام ولا حياة تشبه حياة البشر. ومع الوقت يسمع العالم ويسمع رجالات الدولة بمأساة عبدالودود العالق على حدود جراء فقدانه وثيقة السفر الخاصة، فيتعاطف العالم مع مأساته. وبالرغم من سيل التعاطف المحلي والعالمي المتدفق نحو عبدالودود إلا أن مأساته جراء فقدانه لوثيقته سفره تستمر.
في مشهد الختام في فيلم الحدود، يحتشد العالم كله لمساعدة عبدالودود، ويتقاطر صحافيون وكتاب، ووزراء، وأمنيون، ورجال دولة هم أصلا الدولة نفسها، الى المنطقة الحرام بين حدود الدولتين، للتضامن مع عبدالودود. وتلقى خطاب نارية عن التضامن مع عبدالودود، وتصدح حناجر جمهور المتضامنين والحضور مع شعار رنان ومؤثر أطلقه أحد مسئولي الدولة الكبار الذي كان يصدح بصوت جهوري” لن نعبر الحدود حتى يعبرها عبالودود”. فييفرح عبدالودود بهذه الحشود التي تقاطرت لنصرته، ويتفائل عبدالودود باقتراب الفرج من خيمته البائسة جراء هذا التضامن وجراء تلك الخطب النارية المتضامنة معه من رجالات الدولة الأشاوس. ولكن المفارقة تنجلى في نهاية الفيلم حين ينتهي حفل التضامن ويبدأ المتضامنون بركوب سياراتهم عائدين حيث أتوا، ولينتهي الفيلم بصورة عبدالودود وهو ما زال جالسا وعالقا في المنطقة الحرام بين الدولتين لتستمر مأساته وليستمر حزنه.
حال المؤسسة أو قل الجامعة بات يشبه بالضبط حال عبدالودود، فهي تشبهه في نبل أهدافها، كما تشبهه في دماثة أخلاقها ورسالتها ودورها. ولكن هذه المؤسسة النبيلة تعيش مأساة غير مسبوقة منذ عدة سنوات، حيث تم العبث بكل مفاصلها وتفاصيلها، بل وبكل ركن من مساحاتها الجميلة. وكانت نتيجة كل هذه العبث بالمؤسسة أن مسها المرض والعجز بل والشلل. فمديونيتها باتت تلامس الستين مليونا من الدنانير، ومبانيها أصاب معظمها الهرم بل والصدأ، وأشجارها الباسقة التي رافقت رحلتها تم ارتكاب مجزرة بحقها، وتعليمات الترقية والتعيين في المناصب القيادية والاشرافية تم الدوس عليها، وحقوق العاملين فيها على ندرتها وشحها،هي موضع تطاول وافتئات في كل يوم، وهي في تناقص، وضروعها جفت أو هي على وشك الجفاف واليباس.
وفي خضم هذا الحال ، فالمؤسسة والعاملون بها ومنذ سنين يستصرخون أصحاب القرار من حاملي ألقاب الدولة، والمعالي، والعطوفة والسعادة بغية مد يد العون، او على الأقل بغية تقديم ما يوازي ولو ربع ما يحصلون عليه من مقاعد جامعية، أو كراسي قيادية للأقارب والمحاسيب وأعضاء الشلة والعصبة والتي ما انفكت محادثاتهم الهاتفية تطلبها من رئيس المؤسسة. فالمؤسسة قدمت وما زالت تقدم خدمات بعشرات بل ومئات الملايين من الدنانير من المقاعد الجامعية التي يطلبها هؤلاء المتنفذون دون أن يدفعوا المبالغ المترتبة جراء الحصول على هذه المقاعد لصالح مؤسساتهم، والموسسة أو الجامعة تقدم عشرات الكراسي من رئاسة وعمادة ونيابة رئيس التي يطلبونها للمحاسيب والأقارب وأعضاء الشلة أو العصبة. ولكنهم لا يقدمون للمؤسسة أي شيء مقابل هذه الخدمات، فباتت المؤسسة تنوء بأثقل الأعباء والأحمال.
وكما في قصة فيلم الحدود وبطله عبدالودود، فلا يكاد يمر أسبوع أو كبير وقت، حتى نعيش احتفاليات وصورا أنيقة ودفقا من الأخبار والتغطيات الإخبارية عن أصحاب الدولة والمعالي والعطوفة والسعادة وهم يتقاطرون إلى أحد مباني المؤسسة او الجامعة الحزينة والتي تنزف منذ سنين. وفي هذه الاحتفاليات تلقى الخطب العصماء والكلمات الكبيرة والتي بات الجمهور يحفظها عن ظهر قلب وقبل أن يقرأ الخبر. ويرى الجمهور أو يراد للجمهور أن يرى زعيم المؤسسة وبعض الحاشية وهم يجلسون ويعاشرون ويلتقطون الصور مع صاحب الدولة، او صاحب المعالي وبما يوحي بأن قاماتهم قد تضخمت وباتت تكبر وتكبر.
وكما في فيلم الحدود، ففي كل مرة تنفض الحشود وتغادر مواكب السيارات الفارهة مبنى الجامعة أو المؤسسة، دون أن نرى شيكا ماليا، أو قرارا إداريا، أو مبادرة فعلية من أصحاب الدولة والمعالي والسعادة والعطوفة كما من كل هذه الحشود المتضامنة الزائرة للجامعة. فالجميع يأتي للجامعة، وهي تنزف، ويلقون الخطب العصماء وهي تنزف، ويغادرون الحرم الجامعي، وهم يتركون الجامعة لمصيرها النازف والحزين.
ذات يوم كانت حياة القرية تعيش حدثا سعيدا عندما يقرر زعيم الناحية أو القائم مقام زيارة مختار القرية، فهو عندما كان يزور المختار، كان يقدم شيئا لسكان القرية ويما يعطي دفعا لشرعية المختار ولموقعه بين أهله سكان القرية. مضت الأيام والسنون، وبات المختار يستقبل القائم مقام الذي صار يأتي خالي الوفاض ولا يقدم شيئا للقرية، ولكن جاء ليزور بيت المختار كي يعرف أهل القرية حجم المختار وطول قامته.
ما يجمع المؤسسة الحزينة وصديقنا عبدالودود يتجاوز كثيرا تشابه حال، ليصل حد التشابه في المصائر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى