صناعة المستقبل / د. أحمد ذوقان الهنداوي

خاص – سواليف
صناعة المستقبل

خلال القمة الحكومية العالمية التي عقدت في دبي الأسبوع الماضي، أطلق سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم, نائب رئيس دولة الامارات العربية المتحدة، رئيس مجلس وزرائها، حاكم دبي، مبادرة صناعة المستقبل (إكس 10). تهدف المبادرة إلى إحداث نقلة نوعية وابداعية في مستوى الأداء الحكومي في دبي من خلال تكليف كافة الدوائر الحكومية لاستشراف المستقبل والتفكير “خارج الصندوق” بأبرز المبادرات الريادية والتي يمكن لأفضل وأرقى المدن والدول في العالم بتطبيقها في المستقبل وبعد عشرة سنوات (ومن هنا جاء اسم المبادرة)، لتقوم هذه الدوائر بدراسة هذه الأفكار الإبداعية المستقبلية وتطبيقها على أرض الواقع في دبي خلال عام واحد فقط كأقصى حد. فتتمكن دبي من خلال تطبيق هذه المبادرات بأن تسبق نظيراتها من أفضل دول العالم بمدى زمني يقارب العشرة أعوام. فالتطور التدريجي للأداء الحكومي والتفكير التقليدي في تحسين هذا الأداء وأدواته لم يعد مقبولا لقيادتها. فقناعة هذه القيادة بأن الأداء الحكومي في دبي (والمتميز الآن أصلا بكافة المعايير الدولية) لن يتمكن بأن يكون “الأميز” والأفضل عالميا (وهو الهدف الذي خطته لنفسها) إذا لم تقم حكومة دبي بتنفيذ هكذا “قفزات” إبداعية (أو “أوفرهول حكومي” كما أطلقت عليه قيادتها) في مستوى خدماتها الحكومية.

ولتنفيذ هذه المبادرة تم الطلب من كافة الدوائر الحكومية وخلال مدة أقصاها ثلاثة أشهر باتخاذ كافة الإجراءات التنفيذية لوضع المبادرة حيز التنفيذ، بحيث تشمل هذه الإجراءات تشكيل وحدات تنظيمية داخل هذه الدوائر ورفدها بالكادر البشري المواطن المؤهل للقيام باجراء الدراسات الاستشرافية وتحديد أبرز ثلاثة مبادرات إبداعية مستقبلية والتي ستنفذها الدائرة المعنية وتجريبها بشكل أولي وأعداد الخطة التفصيلية لتنفيذها خلال التسعة أشهر المتبقية من العام، بمؤشرات أداء واضحة ومحددة وقابلة للقياس والمتابعة. مع التعديل خلال تلك الفترة على كافة القوانين والأنظمة والتعليمات الحكومية التي يمكن أن تشكل عائقا أو عنصرا غير داعم لتنفيذ هكذا أفكار إبداعية. وأكدت قيادة الحكومة بأنها ستقوم شخصيا بمتابعة كافة الدوائر الحكومية للتحقق من مدى التزامها وقياداتها بتحقيق هذه الرؤية وتنفيذ هذه المبادرة، وأن مراجعة شاملة ستتم بعد انتهاء مدة العام حيث سيمنح الثواب ويفرض العقاب على هذه القيادات استنادا لمدى تمكنهم من تنفيذ الأفكار الإبداعية وتطوير أدائها الحكومي بشكل جذري. وبعدها يتم الانتقال لثلاثة أفكار إبداعية مستقبلية أخرى لكل دائرة حكومية لتنفيذها خلال العام الذي يليه وهكذا دواليك.

تأتي هذه المبادرة بشكل متواز مع مبادرة “مسرعات دبي للمستقبل” والتي أطلقتها قيادة الحكومة العام الماضي، والمتمثلة في جذب أفضل العقول في العالم وأكثرها إبداعا وابتكارا في القطاعات ذات الأولوية الإستراتيجية. شملت هذه القطاعات التعليم والصحة والنقل والبنية التحتية والطاقة المتجددة والأمن والسلامة والتكنولوجيا المتقدمة. حيث تقوم هذه العقول بمشاركة فرق نظيرة لها من كافة الدوائر الحكومية، ومن خلال بيئة عمل مشجعة ومحفزة، بدراسة كيفية تطوير أدائها وبشكل ابداعي وطرح الأفكار الإبداعية لذلك، سواء أكان ذلك على المستوى الاستراتيجي أو الهيكل التنظيمي أو منهجيات العمل وعملياته الرئيسة والمساندة أو الخدمات المقدمة أو التقنيات المستخدمة، ومنثم تطبيق هكذا أفكار ابداعية.

مقالات ذات صلة

وما أن تم إطلاق هاتين المبادرتين حتى سارعت كافة الدوائر الحكومية بالبدء بتنفيذها، حتى أن بعض الدوائر بدأت بتقديم وتنفيذ مبادراتها الإبداعية وقبل انتهاء مهلة الثلاثة أشهر. فأطلقت هيئة الطرق والمواصلات مثلا مشروع “القطار فائق السرعة” (هايبر لوب) كجزء من مبادرة “مسرعات المستقبل” ومشروعي مركبات النقل العام البرية “تكسي” الذكية بدون سائق ومركبات النقل العام الطائرة “تكسي طائر” الذكية بدون طيار والتي ستدخل حيز التنفيذ خلال شهر تموز/يوليو هذا العام. بحيث يمكنك طلب “سيارة (أو طيارة) أجرتك” من خلال هاتفك الذكي، فتأتي (أو تهبط) اليك بعد دقائق معدودة لتنقلك دون سائق (أو طيار) إلى حيث تريد. ومثلها قدمت هيئة صحة دبي مشروع “التشخيص والعلاج الذكي عن بعد” بحيث يتم تشخيص وتحليل الحالة الصحية لكافة المواطنين من خلال تقنيات حديثة بالغة الصغر (تقنية النانو) مزروعة في جسم الانسان لتقوم بتحليل كافة مؤشراته الصحية أربعة وعشرون ساعة في اليوم وسبعة أيام بالأسبوع، وفي حال وجود أية بوادر لأية عوارض صحية نتيجة لهذه التحليلات المستمرة، وحتى ولو لم يشعر بها الانسان بعد، تتحرك فورا طائرات ذكية بدون طيار لموقع الشخص، مع العلاجات الفورية وتعليمات استخدامها، لحين وصول سيارات الإسعاف والتي ستنطلق مسرعة الى موقعه دون حاجة منه لطلبها أو حتى معرفة منه بانطلاقها. ومثلهما قامت هيئة المعرفة والتنمية البشرية بإطلاق مشروع ” التعلم الشخصي الذكي عن بعد استنادا لمهارات القرن الواحد والعشرين” بحيث يتم تصميم برنامج تعليم ذكي يناسب قدرات ومؤهلات ومهارات كل طالب على حدة ومصمم لتعزيز قدراته ومهاراته والتي ستتواءم مع احتياجات العالم في المستقبل، بحيث يمكن الطالب الخضوع لهذا البرنامج التعليمي الذكي المتخصص والمخصص له بكافة مراحله وسنواته وواجباته وامتحاناته عن بعد ودون حاجته للذهاب شخصيا للمدرسة. هذا كله ليس أحلاما أو مشاهد سينمائية من أفلام خيال علمي، بل هي حقائق واقعة في دبي بعد أشهر قليلة من هذا العام. ومعظمها لا يحتاج سوى الإرادة والإدارة، ولا يحتاج إلى موارد مالية حكومية مباشرة، إذ أن تنفيذها جميعا سيكون من خلال الشراكة مع القطاعين الخاص العالمي والمحلي.

في الأردن… قامت الحكومة وبالتعاون مع كافة الأطراف المعنية، خلال عام 2014 باعداد استراتيجية وطنية (وثيقة الأردن 2020). استندت هذه الاستراتيجية إلى حقائق ومؤشرات “صادمة” كان أبرزها انخفاض مرتبة الأردن في مؤشر التنافسية العالمية/ سهولة ممارسة الأعمال من المرتبة 76 عام 2006 إلى 117 عام 2015. وانخفاضها في محور الصحة والتعليم من المرتبة 43 إلى 65 خلال نفس الفترة، وانخفاض الرضى عن مستوى الأداء الحكومي من أكثر من 70% إلى أقل من 50% خلال الأربعة أعوم الأخيرة، بالإضافة إلى مضاعفة حجم المديونية من 11 مليار دينار إلى أكثر من 24 مليار دينار خلال هذه الأعوام الأربعة. هكذا مؤشرات “صادمة” تحتاج إلى حلول غير تقليدية وتفكير “خارج الصندوق” وإلى تحقيق قفزات نوعية في كافة المجالات لتعويض التراجع الذي جرى خلال السنوات السابقة وفي كافة المجالات والتمكن من اللحاق بالركب الدولي. صحيح أن الاستراتيجية الوطنية حددت أهدافا ومبادرات واضحة ليتم تنفيذها خلال أعوام الخطة، ولكن المشكلة الأساس تكمن في عدم متايعة تنفيذها، فلم يسمع للآن بأن الحكومة التي قامت بوضعها أو الحكومة الحالية التي جاءت بعدها قامت بإجراء أية عملية تقييم أو متابعة لما انجز من هذه الخطة، فأصبحت كسابقاتها من الاستراتيجيات والاجندات الوطنية والخطط الخمسية والعشرية الوطنية مجرد حبر على ورق. مخطوطات محفوظة على الرفوف أو في الادراج أو الأقراص المدمجة ليتم الرجوع اليها فقط بعد سنوات وعندما يتم الطلب باعداد الخطة الاستراتيجية الوطنية القادمة. هذا كله إضافة الى استناد الاستراتيجية الحالية إلى مبدأ التطور التدريجي البطيء (وليس القفزات النوعية في الأداء) المشروط بحزمة كبيرة من الاشتراطات والافتراضات (كالمنح والمساعدات الخارجية)، وافتقارها لأي تفكير إبداعي خارج الصندوق لكيفية خروج الوطن والمواطن من عنق الزجاجة.

النهج الاستراتيجي نهج صحيح وقويم ويحب أن يستمر ويفعل من خلال إعادة النظر به وبشكل ابداعي وابتكاري، بالإضافة إلى تفعيل الرقابة والمتابعة له وبشكل دوري (ربعي ونصف سنوي وسنوي) وتفعيل سياسة الثواب والعقاب وربطها بمدى تمكن المعنيين من وزراء ومدراء عامين من تحقيق الأهداف وتنفيذ المبادرات الاستراتيجية. ولكن يجب أن يوازي هذا النهج تطبيق لأفكار إبداعية على أرض الواقع وبشكل سنوي يلمس المواطن أثرها عليه ومستوى معيشته بشكل مباشر وتساهم في تحقيق رضاه وسعادته على المدى القصير، فتخرجه من دوامة البؤس والإحباط وفقدان الأمل التي يعيشها، وتعطيه الأمل، من خلال مشاريع مطبقة على أرض الواقع تمس حياته ومستوى معيشته، بأن المستقبل سيكون أفضل له ولأبنائه.

ويمكن للحكومة الأردنية تحقيق ذلك من خلال الإفادة من تجربة شقيقتها في دولة الامارات العربية المتحدة، ودبي على وجه الخصوص. فتأخذ الحكومة زمام المبادرة وتؤكد التزامها وايمانها الراسخ بأهمية الارتقاء بالأداء الحكومي كإستراتيجية أساس لتحقيق سعادة المواطن والمستثمر على حد سواء فتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة. لتعلن ذلك من على كل منبر وفي كل مكان وزمان، حتى يصبح واقعا ملموسا وحقيقة مترسخة في الأذهان ومنهاج عمل يومي يلتزم الكبير والصغير والموظف الحكومي والمواطن به على حد سواء، كما هو الحال في دبي. والسعي والمبادرة لتكوين شراكة كاملة مع شقيقتها حكومة دبي لتطبيق المشاريع الاستشرافية المستقبلية الإبداعية وبشكل سنوي، وبعد تطويعها وتعديلها بما يعكس خصوصية الوطن. فأشقاؤنا سيبذلون الجهد الأكبر في تحديد أبرز المشاريع المستقبلية الريادية التي يمكن أن تحقق سعادة المواطن ودفع عجلة التنمية الاقتصادية ووضع الخطط السنوية لتطبيقها، وقيادة حكومتهم ممثلة بسمو الشيخ محمد بن راشد أبدت استعدادها الكامل لنقل خبرتها وتجربتها في هذا المجال لأشقائها. وعليه فلا داعي لإعادة اختراع العجلة. فيمكن فورا تشكيل فريق حكومي يقوده رئيس الوزراء أو من ينوب عنه ويضم الوزراء والمدراء العامين المعنيين لتنفيذ مشروع “مسرعات الأردن للمستقبل” من خلال الشراكة مع نظرائهم في حكومة دبي لتحقيق هذه الغاية. فيتم تحديد المشاريع المستقبلية وتطبيقها في الأردن من خلال خطط سنوية واضحة ومحددة ومن خلال الاستفادة من تجربة الأشقاء في حكومة دبي ودعمهم، ليتم تكرار ذلك وبشكل سنوي.

هكذا يمكن أن يكون الخروج من النفق المظلم… هكذا تتحقق القفزات النوعية في تطوير أدائنا الحكومي لنلحق بالركب العالمي، لا بل نتفوق عليه… هكذا تتحقق سعادة المواطن والمستثمر على حد سواء… هكذا تتحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة… هكذا يصنع المستقبل…

حفظ الله الأردن عزيزا وقويا ومنيعا… وحماه شعبا وأرضا وقيادة…

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى