الإسلام والعلمانية / د . هاشم غرايبة

الإسلام والعلمانية

يبدو للوهلة الأولى أن ثمة مفارقة في العنوان ، فالعلمانية في فهم العوام أنها نقيض للدين ، وفي تخيل المفتونين بها أنها بديل له ، وأن ثورة فكرية تقدمية هي التي أوجدتها ، وقد يبالغ البعض في إسباغ هالات زاهية لدرجة إلباسها لبوس العقيدة ، وتكريسها طوطما مقدسا لا يجرؤ أحد على المجادلة في أنها الطريق القويم .
انبثقت العلمانية في أوروبا بعد معاناة قرون من تسلط رجال الدين المسيحي ( الأكليروس ) وتحالفهم مع الإقطاعيين والأباطرة على حساب طبقة الشعب المسحوقين ، فانصبت حركات تحرير الإنسان على أضعف حلقة في هذا التحالف وهي الكنيسة ، ولما كان من الصعب القضاء عليها فقد اكتفي بالدعوة الى فصلها عن التدخل في الشؤون العامة للناس (السياسة ) .
العبارة الأصلية هي (Secularism ) ومعناها الدنيوية ، لكن المعجبون بها من العرب فضلوا مسمى العلمانية ، بسبب خلفية معتقدهم القائم على أن الدين نقيض للعلم ، ثم جاء بعدهم من شذب العبارة فأصبحت العَلمانية ( بفتح العين بدل كسرها ) .
بدأت أول تجربة للعلمانية العربية في مصر مع الاحتلال البريطاني (1882-1952) واستطاع العلمانيون مثل يعقوب صروف وفارس نمر ونقولا حداد الذين طلبوا اللجوء السياسي من الإمبراطورية العثمانية نشر أعمالهم في مصر في ذلك الوقت وتلك البيئة. أصبح هذا النقاش في هذه القضية موضوعاً ساخناً ، كما صدر كتاب “علي عبد الرازق” “الإسلام وأصول الحكم” عام 1925 ، وقد أثارت آراؤه جدلاً كبيراً ، ومنها رأيه في عدم ضرورة مسمى خليفة كحاكم للدولة ، ، لكنه يبقى وثيقة بالغة الأهمية في المناقشة الفكرية والدينية في التاريخ الإسلامي المعاصر .
كما تكوّن في مصر أول كيان سياسي علماني بحلول العام 1919 تحت اسم” الحزب العلماني” الذي غير اسمه فيما بعد إلى حزب الوفد . وبعد ذلك أصبحت العلمانية منهجا ثابتا لكل أنظمة الحكم العربية بلا استثناء حتى الآن على الرغم من إعلان أغلبها أنها إسلامية ، لكن الحقيقة أنها جميعها لا تحكم بالشريعة ، والتي ليست أكثر من مادة مدونة في الدستور وتقول أن دين الدولة الإسلام .
يجب أن نعترف بأن الحركة الإبداعية للمفكرين في الدولة الإسلامية ، اشتمل على جميع الميادين ما عدا البحث في نظام الحكم ، ولم يتم الإلتفات الى مقولات الإغريق وسواهم في هذا المجال فقط ، رغم مناقشة البحوث الفلسفية والعلمية التي جاءوا بها ، لا شك أن السبب الأساسي هو الحكام أنفسهم الذين استطابوا منهج الحكم الوراثي ولم يسمحوا بطرح أسلوب آخر كالإنتخاب ، وبقي الأسلوب هو البيعة الذي لا يعدو فرض الأمر الواقع .
ينظر كثير من الإسلاميين بشك وريبة الى عبارة العلمانية ، بل يذهب كثير منهم الى اعتبارها نقيضا للدين ، لكن لو تمعنا في المعاني الحقيقية لها انطلاقا من رفضها لسلطة الأكليروس والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ، لوجدنا أن مبرراتها ودوافعها سليمة ، لكن السؤال : هل ما دعا لقيامها في أوروبا ، متحقق عندنا ؟ بمعنى هل من حاجة الى هذه الثورة المدعاة على الدين .
بالقطع ليس هنالك رجال دين في الإسلام ، وبالطبع ليست هنالك مراتب ومناصب دينية ، وبالتالي لا توجد مؤسسة لاهوتية يرجع إليها في الدين ، فالتعمق في العلوم المتعلقة بالدين متاح لأي شخص ويسمى مجتهدا ، أي له رأي قد يكون مقنعا لكنه غير ملزم .
وبما أنه لكل مجتهد رأيه وفقهه ، وقد لا يتفقون في كثير من الآراء ، فلا يمكن أن يشكلوا جماعة ضاغطة أو طبقة متماثلة المصالح ، ولا يملكون سلطة على أحد .. إذن فلا يوجد أكليروس في الإسلام .. وعليه سقط المبرر الأول للعلمانية .
أما عن كفالة المساواة بين المواطنين وضمان حقوق الإنسان ، فهذا متحقق بدلالة الآية الكريمة التي تمثل مباديء الدستور : ” يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ” ( الحجرات : 13 ) ، فقد تضمنت جميع المباديء المبتغاة : (1) المخاطبة للناس جميعا وليس للمسلمين فقط أي حق المواطنة للجميع . (2) عدم التمييز فالكل من أصل واحد . (3) حدد الناس بالذكر والأنثى أي عدم التمييز على أساس “الجندرية” . (4) التعددية في الإنتماءات العرقية والقومية ، والتفاضل محكوم بتقديم الخير للآخرين . (5) الهدف من التعددية التعاون والعمل المشترك وليس التناحر بهدف السيطرة على الآخر .
وبعد ، هل بعد كل هذا الذي بينّاه يبقى من مبرر للعلمانية ؟ .. هل يتحقق منها خير للإنسان أكثر مما يحققه تطبيق الإسلام ؟.. وإذن ألا يكتفي دعاة العلمانية عداء للإسلام ، ورميا إياه بما ليس فيه من تهم باطلة .
ثم ألا يتوقف بعض المسلمين من المرتعبين من الآخر ، والمتوجسين خيفة على الدين ، عن رفض فكر الآخر بالمطلق ؟ وكأن الدين يمكن لأحد دحضه بالحجة والبرهان ؟ ، إن المباديء والمبررات التي جاءت بالعلمانية هي سليمة ، وأدت الى ثورة علمية وتقنية بعد قرون من التسلط والظلم في أوروبا … لكن لدينا حل أمثل لم يكن علمانيو أوروبا يعرفونه .. وقلدهم العلمانيون العرب بجهل أيضا بالإسلام .. وعليه فلا حاجة لنا بهذا المسمى .. فلدينا الأفضل .. الإسلام ، ولكن افهموه جيدا ، واجتهدوا في التعامل مع مستجدات العصر ، ليس استنساخا لاجتهادات الأقدمين بل إعمالا للعقل مثلما أعملوا عقولهم ، فنفعتهم لزمانهم .

– للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور هاشم غرايبه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى