عنان وعيسى فدائيان من المهد إلى باب الخليل!

سواليف
الساعة الواحدة ظهرا في مدينة القدس المحتلة، كل شيء يسير بهدوء نسبي، الحياة تنتظم رغم كل الإجراءات والقيود المشددة بحق المواطنين، أصوات الباعة تصدح في المدينة، مصلون يخرجون من بوابات المسجد الأقصى كل لوجهته، أما عيسى عساف وعنان أبو حبسة فكان لهما وجهة واحدة، نحو الشهادة.

أصدقاء الطفولة

في مخيم قلنديا شمال القدس، صديقان منذ الطفولة، درسا ولعبا سوية في أزقة المخيم، جمعهما حب الأرض والوطن، تعاهدا بأن لا يفرقهما إلا الموت سوية.

لم يكن سهلا على من ولد وترعرع في مخيم قلنديا بأن يعيش حياة طبيعية، فالاقتحامات والاعتقالات لعشرات الشبان، وما يرافقها من عمليات تكسير وتنكيل، أثارت الرعب في قلوب أطفالها وشيوخها، ليس هذا فحسب بل إن الدماء التي سالت على أرض المخيم لعشرات الشبان الذين ارتقوا شهداء كانت دليلا على همجية ووحشية الاحتلال.

عنان أبو حبسة (20 عاما) من قرية ساريس المهجرة غرب القدس، الطفل الأصغر في عائلة محمد صالح أبو حبسة، يكبره ولدان وبنت، كان المدلل عند والدته الذي عرفته، عنيدا، خفيف الظل، يحب ركوب الخيل، والسباحة، اجتماعيا، محبوبا من الكبير والصغير، حالما، ومحبا للحياة.

أما عيسى عساف (20 عاما) فمن قرية علار المهجرة غرب القدس، له سبعة أشقاء وثلاث شقيقات، وهو الابن السادس لياسين عساف، لاعب كرة قدم موهوب، كتوم، محبوب، جدي.

عنان وعيسى درسا سوية في معهد قلنديا، فاختار عيسى النجارة في حين درس عنان الالكترونيات، لكن لم يحالفها الحظ بإيجاد وظيفة دائمة يعملان بها، فكلاهما كان يعمل بشكل متقطع.

أسيران محرران

في عام 2010 اعتقل جنود الاحتلال عنان إذ كان يبلغ من العمر (15 عاما)، وقد كان اعتقاله بذريعة إلقاء الحجارة على جنود الاحتلال عند حاجز قلنديا، حيث أمضى في السجن 6 أشهر مرّ خلالها في ظروف قاسية ابتداء من التحقيق مرورا بطبيعة الحياة في الزنازين.

عقب الافراج عنه خرج عنان أكثر انضباطا، فتلك الطفولة فُرض عليها أن تكبر قبل أوانها، حيث لم يعد اللعب والركض والاختباء في أزقة المخيم يثير اهتمامه.

أما عيسى فهو أسير محرر أفرج عنه الاحتلال قبل شهرين فقط، وخاض ذات التجربة لكن بقساوة أكبر، ففي 20/ آذار من العام الماضي اعتقل جنود الاحتلال عيسى أثناء عودته من بيت إلى لحم على حاجز جبع، وكان حينها برفقة شقيقتيه وابن عمه.

وأوقف جنود الاحتلال سيارتهما وسألوا عن عيسى، أمسكوه بعنف وأخرجوه من السيارة، لم يكتف الاحتلال بذلك بل رشوا الغاز على من بقي داخل السيارة، واعتدوا بالضرب على عيسى ثم قيدوه وطرحوه أرضا.

ذلك المشهد لم يكن سهلا على شقيقته الصغرى التي شاهدت كيف اعتدى جنود الاحتلال على شقيقها الأحب إلى قلبها وعليهم أيضا، فشكل ذلك صدمة لها لم تمكنها من الحديث مدة ثلاثة أشهر.

عقب الافراج عن عيسى اجتمع الصديقان مجددا، وأصبح عنان يتواجد في منزل صديقه بشكل شبه يومي، حتى بات فردا من العائلة، فوالد عيسى أحب عنان كما يحب ابنه.

لم يكتف الاحتلال باعتقال عيسى والتنكيل به أمام عائلته، بل وفي ظل سياسة الاعتقالات والاقتحامات المكثفة التي شنها الاحتلال منذ بداية الانتفاضة، اقتحمت قوات الاحتلال مخيم قلنديا في 16/ كانون أول الماضي أي قبل استشهاده بأسبوعين وفتشت عددا من البيوت، من بينها كان منزل عيسى.

واحتجز جنود الاحتلال عائلة ياسين في غرفة واحدة، وأمروا عيسى بارتداء ملابسه، في تلك اللحظة ظنت العائلة أن عيسى سيغادرهم قسرا مرة ثانية، لكن ما حدث أن جنود الاحتلال اقتادوا عيسى إلى باحة المنزل ولم تعلم عائلته ما حدث معه.

يقول والد عيسى لـ قُدس الإخبارية، “لم يخبرنا عيسى ما حدث معه، فهو كتوم جدا، ربما تعرض للضرب، لكن كرامة عيسى فوق كل شيء، كيف له أن يخبرنا بأنه تعرض للضرب”!.

الوداع الأخير

ساعات قليلة متبقية.. جلسة وداع أخيرة مع الأحبة والأصدقاء، كلمات سيتم انتقاؤها بعناء تحمل في ثناياها وداعا أخيرا لكن دون أن يشعر أحد بذلك، ابتسامات وزعها عيسى وعنان على كل من حاضرا في تلك الجلسة، لتكن تلك الصورة الأخيرة التي يستذكرونها بهم.

عنان الذي وصل بيته في ساعة مبكرة من المساء، جلس مع عائلته كأي يوم آخر، جلس بجانب أمه يحمل هاتفه وقال لها، “شاهدي يا أمي ذلك الشاب ما أجمله”.

تقول والدة عنان لـ قُدس الإخبارية، “عنان أراد أن أشاهد معه أغنية لشاب سوري ينزف دما ويقول في أغنيته إنه ليس حزينا على دمه النازف، بل لأنه لم يمت شهيد”.

في صبيحة يوم الأربعاء، 23/ كانون أول الماضي استيقظ عنان وبدأ يستعد لمهمته، على كلمات وموسيقى الأغنية السورية التي ارتفع صوتها لتعم أرجاء المنزل، استحم وبدأ يحلق ذقنه كما لو أنه يحضر نفسه لزفاف صديق.

كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحا عندما أنهى عنان صلاته واقترب من والديه، قبّل يدهما كما يفعل كل يوم عندما يريد أن يخرج من المنزل، مازح والده قليلا وقال له، “يابا ارضى علي وادعيلي الله يوفقني، أنا لقيت شغل جديد”.

خرج عنان من المنزل متوجها إلى منزل عيسى، طرق بابهم فاستقبله الحاج ياسين ودعاه للدخول، إلا أن عنان شكره وطلب منه أن ينادي عيسى.

الحاج ياسين الذي كان يحتاج عادة لنصف ساعة لإيقاظ ابنه عيسى، لم يكن يحتاج كل ذلك الوقت في هذا اليوم، وبمجرد أن قال له، “عنان في الخارج انهض”، سريعا استيقظ وارتدى أفضل ملابسه مودعا أهله قائلا لهم، “سأذهب اليوم لأعمل”.

يقول ياسين، “عندما خرج عنان وعيسى رأيتهم كيف يضحكان ويتمايلان على بعضهما البعض، كانا في قمة سعادتهما”.

حجة الغياب التي قدمها عيسى وعنان لوالديهما كانت مقنعة بما فيه الكفاية، لكن دعوة عيسى لأحد الجيران لحضور حفل خطوبته أدخلت الريبة في قلب والده، حيث يوضح ياسين، أنه خرج في ظهيرة ذلك اليوم لدكانه والتقى مع جاره الذي سأله، “اليوم رأيت عيسى وعزمني على خطبته الساعة الخامسة، متى عقد قرانه لم أعلم بذلك”، استغرب ياسين الأمر لكنه ظن أن ابنه قصد ممازحة جارهم.

من القدس وإليها

الساعة الواحدة ظهرا بدأت وسائل الإعلام تتداول خبرا حول عملية طعن نفذها شابان في باب الخليل، وانتشرت صور عن العملية في مواقع التواصل الاجتماعي كانتشار الهشيم في النار، لكن دون تحديد هوية أي من المنفذين.

والد عنان كان يشاهد في تلك اللحظة الأخبار العاجلة التي تتوارد على شاشات التلفاز، وتفيد بمقتل مستوطن وإصابة آخرين بجروح متفاوتة إحداها خطيرة جدا، واستشهاد شابين لم تعرف هويتهما بعد.

بعد وقت قصير؛ انتشر مقطع مصور يظهر اعتداء مستوطنين على شابين بشكل وحشي، بالإضافة لصور استطاع فلسطيني التقاطها وشاهدها أحد أبناء المخيم ثم أخبر شقيق عنان، الذي لم يصدق في البداية وظن أن الشاب أراد أن يمازحه، لكن عندما نظر في عينيه ورأى حزنا شديدا فيهما، توجه سريعا لمنزله وفتح جهاز الكمبيوتر ورأى صورة عنان، في تلك اللحظة لم يعد بمقدوره أن يقف على قدميه فأمسك بالكرسي.

وجهه الشاحب وصدمته لفتت انتباه والده، فسأله “مالك يا بني”، فأجابه “لست أدري ماذا أقول لك يا والدي، عنان استشهد”. يتساءل والد عنان هل يعقل من كان يحدثنا قبل أسبوع فقط عن نيته في الزواج، و طموحه بأن يكمل بناء بيت له، ويكوّن عائلة يستشهد اليوم؟

صورة عنان انتشرت في كل منزل في مخيم قلنديا، وفي بيت عيسى كانت والدته تبكي وتتساءل من هو الشاب الأخر الذي استشهد؟ هل عيسى برفقة صديق العمر؟ أما والد عيسى فقد شاهد الصورة أيضا لكنه أبى أن يصدق ما يرى، “عنان في الصورة؟! نعم إنه عنان! لا لا ليس هو، شاب آخر يشبهه”.

ويؤكد الحاج ياسين أنه بات مقتنعا بأن عنان هو الشهيد الثاني، لكنه ظل متعلقا ببصيص أمل أن يكون مخطئا فواصل انتظار الإعلان عن هوية الشهيد الثاني، وبعد نصف ساعة انتشرت صورة أخرى ضمت هذه المرة الشهيدين عنان وعيسى معا.

تساؤلات عديدة مازال والدا الشهيدين عنان وعيسى يطرحانها حتى الآن، “كيف وصلا القدس؟ وكيف استطاعا أن يتجاوزا عن كل تلك الحواجز الإسرائيلية في المدينة؟!”.

رغم فقدان عيسى وعنان، إلا أن عائلتهما تفتخران بهما، كيف لا وقد استطاعا أن يثبتا مرة أخرى للاحتلال بأن الحواجز وجدار الفصل العنصري لن تمنع الفلسطينيين من الوصول إلى مدينة القدس.

امتنع الاحتلال عن تسليم جثمان الشهيدين عيسى وعنان، واحتجزهما في الثلاجات مع جثامين الشهداء المحتجزة، لتبدأ معركة جديدة يخوضها الحاج محمد وياسين من أجل استرداد جثماني ولديهما.

يقول والد عنان، “كل مصيبة تبدأ صغيرة وتكبر، إلا مصيبة احتجاز جثمان الشهيد تبدأ كبيرة وتصغر عندما يوارى الثرى”، مضيفا، “احتجاز جثمان عنان في ثلاجات الاحتلال يشعرنا بالبرد والوجع، فكيف لقلبي أن يهدأ ما دام جثمان ابني محتجزا! ففي كل ساعة نشعر بالوجع كما لو أن عنان استشهد قبل نصف ساعة”.

ليلة رأس السنة الميلادية؛ سلمت سلطات الاحتلال جثماني الشهيدين من كوكبة من الشهداء الذين كانت تختطف جثامينهم، ورغم برودة الأجواء وتأخر وقت التسليم، إلا أن المخيم شهد احتفالا لم يعرف العالم له مثيلا في هذه الليلة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى