ترنيمة لنصير شمّه

سهير السميري(الجموح)

من الصعب أن تستمع لنصير شمّة وتعود بكامل عافيتك..
كل الطرق مُعبّدة لتسير بك إلى منارة الرماد.. تقايض من يغسل ذاكرتك بزهو العمر..
.. لتستمع لـ»شمة» تحتاج خيطا تربط به طرف غيمة تستدعيها حين احتراق.. وعريشاً من جريد النخيل فيه عذق تسند ظهرك إليه..
تحتاج عكازاً ساريةً تلوّح بها سلاماً.. سلاماً..

الأشياء عادةً تبدأ من أولها.. إلا تلك الأمسية بدأت من نهاية الجرح..
في جيبي ثلة مفاتيح.. وتأشيرة حزن لـ نصير شمة.
يُداعب عودَهُ ليشهق الجرح.. عشر أصابع لا تكفيه
ليعزف السامراء وكربلاء.. أو ليرسم وجه بابل.
جوقة ألحانه تجول بك أسواق العراق.. فتشمّ بخور آشور. تستذكر جلجامش.. دجلة وقت الغروب..
وعلى وجل تحضُر سنونوة الروح سامراء، وتتركنا في مهب الحزن..
يتمطى الحنين لبغداد بين حاجبيك.. تتوحد معه وترصُد وجوه الحاضرين تجدها كخرائط الحُزن تشير إلى وجعك..

أُمسية مدت إصبعها وفقأت عين أحلامي.. فيها عرف الهمُّ طريقه إلى قلبي كمن يقصّ الأثر ولا يصل..
مهاميز لحن «التشوبي» طيّرتني.. وانتفضت، صرخت: حلّق يا «شمة»، فما سماء اليوم إلا وجعي!
كيف للحنٍ فيه بحة الناي أن يحرك حمية الجهاد في النفوس.. كيف له أن يكون طحين الوجع!
خرجت من الأمسية.. كمُحارب ترك المعركة منذ الطلقة قبل الأولى: لو أنثر ألمي ذرواً للطير.. للريح.. فلا يتبقى منه شيء.
لو أن الوجع أوراقَ تقويم ننتزعها فتتساقط عند أقدامنا! أو نصنع منها مراكب ورقية تغفو فوق الماء ويجرفها بعيداً!
ألحانك يا نصير مثقلة كشجرة افترشت أغصانها الأرض لفرط حمولتها!
تشتهي نهراً كاملاً تستحم به..
مبللٌ صوتك.. أهو ماء الفرات!
أم إن دموع العراق تتزّ من مسام جلدك..
تائه.. تتوسل جُرح بغداد أن يسقط منك.. أن يغلق النافذة..
فلا موجز للنشرة ولا خبر عاجل..
ما أشقاني! تحمل عراقَنا بين جوانحك وتشتعل.. فتفوح رائحةُ احتراقك بِـ»شيشة» جدي..
تجوب الأرصفة كطريد الدم المهدور.. تركُل أعباءك فترتدّ إليك.. تحشو أوردتكَ بأمل خائب، وأسئلة تتحشرج في حلقك: كيف نبتت للمساء أظافر!
ما الذي سمعته هناك وقضى عليك! ما الذي سمعته هنا وقضى عليّ!
نتسول معك: لله.. رصيف آمن..! خزائن خالية من أثواب الأرامل! سنابل قمح على ضفاف دجلة!
لك الله.. كيف هرمّتَ فجأة.. ولم تَغْفُ قرب امرأة تفوح منها رائحة الربيع! لم تتدثر بدفْ القرنفل!
لم تقف امرأة -عمداً أو صدفة- في طابور أحلامك!
لم تلوِ الصبايا ذراع قلبك!
لم تسرّج بوحك..
لم تَفِ بنذرك..
ما تزال تدحرج العمر نيئاً على سلالم الأيام.. ومع ذلك:
اكتمل موتكَ..
موتي..
في تلك الأمسية

جريدة الرأي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى