أبرز السيناريوهات المحتملة لنشوب الحرب العالمية الثالثة

سواليف
عادت للأذهان صور التدخّل العسكري الأمريكي المباشر في الخليج بعد إسقاط إيران لطائرة مسيّرة أمريكية في 20 يونيو (حزيران) 2019، ومعها تصدّرت عناوين تحذّر من حرب قد تنفجر من الصراع في الخليج العربيّ وتنطلق من المشرق وتتحول إلى الحرب العالمية الثالثة، ثم وصل الأمر إلى حد تصدر هذا التحذير مواقع التواصل الاجتماعي، مع صباح اليوم الثالث من يناير (كانون الثاني)، بعد ساعات من إعلان الولايات المتحدة الأمريكية تنفيذها عملية قتلت من خلالها رجل إيران المهم قاسم سليماني. فما هي السيناريوهات التي يقترحها المراقبون السياسيون والخبراء عمومًا لنشوب حرب عالمية؟
1- هل يفتح الاغتيال أبواب الحرب

اشتعلت أوروبا عن بكرة أبيها بعد اغتيال فرانز فرديناند، ولي عهد الإمبراطورية النمساوية، وفجّر مقتله بركانًا شحنته سنوات من صراع النفوذ بين دول أوروبا المختلفة، وسباق تسلح، وأزمات إقليمية متتابعة ملأت أوروبا بقلق وتوتر دائم. واليوم ربما يكون اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيرانيّ، فاتحةً لحرب جديدة كبرى في نظر البعض.

توقّع محللون اشتعال حرب عالمية، أو على الأقل إقليمية، في الخليج العربي بعد أن أسقطت إيران طائرة مسيّرة أمريكية في 20 يونيو 2019، تبعها هدوء أمريكي وتكثيف للعقوبات على إيران. اشتعال حرب عالمية بسبب الصراع الإيراني الأمريكي يتمحور حول أمرين: مضيق هرمز، وحلفاء أمريكا من دول الخليج وإسرائيل.

تأتي أهمية مضيق هرمز من كونه بوابة عبور 90% من النفط الخليجيّ، وخُمس النفط المُصدّر عالميًا، ولم تتوانَ إيران عن التهديد بإغلاق المضيق وشلّ حركته النفطية في حال منعت الولايات المتحدة إيران من تصدير نفطها وبيعه، ونتيجةً لذلك سترتفع أسعار النفط عالميًا، وستعوّض الولايات المتحدة وروسيا تحديدًا النقص في السوق العالمي، وهذا قد يؤدي إلى انتعاش قصير الأمد للاقتصاد الروسي المتعثّر. الأثر الأخطر لإغلاق هرمز يكمن في دفع أمريكا للتدخل نيابةً عن دول الخليج لفتح مضيق هرمز بالقوة العسكرية رغمًا عن إيران؛ ما قد يصعّد الأمر لحرب شاملة.

تواجد إيران اليوم في اليمن عبر جماعة «أنصار الله» الحوثيّة، وفي لبنان «حزب الله»، وفي العراق «الحشد الشعبيّ» و«حزب الله» العراقي، ولها ارتباط تاريخي بالمكوّن الشيعي العراقيّ، وفي سوريا تمهّد إيران وحليفتها روسيا لاختتام الحرب بنصر نهائيّ لنظام الأسد، وأخيرًا لإيران وكلاء في فلسطين، في قطاع غزة، في مقدمتهم حركة «الجهاد الإسلامي» المدعومة إيرانيًا، و«حركة المقاومة الإسلامية (حماس)»، وجناحها العسكري «كتائب القسام».
قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، يجلس بجانب المرشد الأعلى لجمهورية إيران الإسلامية، علي خامنئي. مصدر الصورة: ويكي.

وبذلك تُحيط إيران السعودية والإمارات من ناحية الخليج وجنوبًا من اليمن. ومن شمالَ السعودية قواتها في العراق. وتجسّد خطر الانتشار الإيرانيّ بشكل واضح بالنسبة للسعوديين بعد استهداف الحوثيين لمنشآت نفطية سعودية في البقيق وخريص؛ ما خفّض الإنتاج السعوديّ إلى النصف تقريبًا، وأظهر الهجوم مكامن ضعف في الأمن السعوديّ.

مع خبر اغتيال قاسم سليماني في بغداد توجّهت العيون نحو العراق الذي قد يكون منصةً لانطلاق الحرب التالية. متى وأين ستنطلق؟ سيحدّد ذلك الرد الإيراني وحجمه، فهذه المرة تستهدف الضربة الأمريكية أحد رؤوس النظام الإيراني بشكل مباشر، ولون الضربة ورائحتها تجاوز خطوط الصراع السابقة نحو مساحات جديدة. هل ستفتح إيران النار على إسرائيل عبر وكلائها في المنطقة؟ أو على حلفاء الولايات المتحدة في الخليج. ستجيب إيران عن كل هذه الأسئلة في الساعات والأيام القليلة القادمة.

جورج فريدمان، خبير السياسة الدولية والمستقبليات، يستبعد وقوع حرب أمريكية إيرانية لكلفتها على الطرفين. حرب بين الدولتين ستؤدي إلى سحق الجيش الإيراني وقوته العسكرية، وستسغلّ فيها أمريكا تفوّقها الجوي لإغراق إيران بالقنابل وإبقائها تحت القصف لفترة طويلة؛ ما سيحقّق نصرًا مبدئيًا، ولكن «ألم الحرب» لا يكفي لإخضاع الشعوب والأمم كما يرى فريدمان، فلا دولة تتراجع تحت القصف الجويّ. وكلفة الاجتياح الأرضيّ لأراضي إيران ستكون عاليةً جدًا على أي رئيس أمريكي، وخصوصًا على الرئيس الحالي دونالد ترامب الذي وعدَ بإنهاء الحروب الأمريكية العالقة حول العالم. يرى فريدمان أنّ الانتصار الجوّي ستليه «حرب احتلال»، مثل التي خاضتها في فيتنام وأفغانستان، هذا في حالة نشوب طبع، وفي كلتا الحالتين أوصلت الولايات المتحدة لنتائج لم تكن ترغب بها في المقام الأول.

ما يستدعي شبح حرب متعددة الأقطاب الدولية هنا هو تشابك العلاقات والمصالح، فعلى سبيل المثال: تحظى إيران بعلاقة متينة مع روسيا، وقد عزت روسيا الشعب الإيراني اليوم بعد اغتيال سليماني، لا يعني هذا بالطبع أن هناك أي مؤشرات على قيام حرب شاملة حتى الآن، ستستدعي في تطوراتها دخول أطراف مختلفة، ولكن يظل الأمر رهن التطورات التي ستجري في الساعات القليلة القادمة.

2- هيجان الدب الروسي

يقترح العديد من المحللين أنّ جبهة اشتعال الحرب العالمية الثالثة ستكون جبهة روسيّة، بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين في أوروبا ودول شرق أوروبا، تحديدًا إستونيا، ولاتفيا، وكلتاهما عضو في «حلف شمال الأطلسي (الناتو)»، وأوكرانيا، وبيلاروسيا، وجورجيا المتعاونات مع «الناتو»، ولكلّ هذه الدول حدود مباشرة مع روسيا.

مشكلة روسيا في هذا الصراع واضحة: مقاومة أمريكا لمحاولات روسيا توسيع نفوذها في الدول المجاورة لها تشكّل خطرًا وجوديًا على الدولة الروسيّة، فالعمق الجغرافي بين موسكو العاصمة والحدود لا يتجاوز 300 كيلومترًا.

كييف عاصمة الروسيين التاريخية، فيها تنصّر الأمير فلاديمير الأوّل، أحد أشهر حكام الروس عبر التاريخ، وأعلن المسيحية دينًا لدولته من كييف عام 988 ميلادية. عدا البعد التاريخي، لأوكرانيا وعاصمتها أهمية أمنية وسياسية بالنسبة لروسيا. في واحدة من أصعب مراحل الثورة البلشفية المُنطلقة عام 1917 انقسمت روسيا بين الجيش الأحمر البلشفيّ، والجيش الأبيض من مناصري القيصرية، الذي استطاع أحد جنرالاته اجتياح أوكرانيا لتقصر المسافة بينه وبين موسكو – أهم معقل للبلاشفة آنذاك – أقلَّ من 320 كيلومترًا، ومع انتهاء الأزمة وانتصار البلشفيين تحدثوا مرارًا عما حصل ووصفوه بالدرس القاسي. تعلّم لينين وستالين ذلك الدرس، وورثه عنهم اليومَ فلاديمير بوتين، الرئيس الروسيّ وعميل الاستخبارات السابق في الاتحاد السوفييتي.

دول الحزام المجاورة لروسيا، وخصيصًا أوكرانيا، كانت منطقة حماية وعمق جغرافي لروسيا تاريخيًا ضد أي اجتياح خارجي. فشلَ غزو نابليون لموسكو لطول المسير وشدّة البرد، وكذلك حملة الاجتياح النازيّ لروسيا السوفيتية، المكوّنة من 3 ملايين جندي من أكفأ القوات النازية، قاتلت على جبهة طولها أوسع من 3 آلاف كيلومتر. بدأت الحملة، «عملية بربروسه» كما سمّاها النازيون، في صيف 1941، وانتهت في شتائه في ديسمبر (كانون الأول)، نجح فيها النازيون بغزو كل أوكرانيا ودول الحزام ووصلوا أبواب موسكو لينهار هجومهم في شتاء روسيا القارس مع إعياء شهور القتال الطويلة.

يريد بوتين اليوم أن يعيد روسيا لعظمتها السابقة، وأن يحميها بخلق مساحة آمنة في فنائها تحمي روسيا بدلًا عن أن تكون منصة انطلاق للعدوان عليها. ونتيجةً منطقية لذلك جاء الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم في مارس (آذار) 2014. تاريخيًا كانت جزر القرم تابعةً لروسيا، ومن ثمّ جزءًا من الاتحاد السوفيتي، ولكن في عام 1954 قرّر نيكيتا خروشوف، رئيس الاتحاد السوفيتيّ بعد ستالين، أن يهديها لما كانت تسمى آنذاك جمهورية أوكرانيا السوفيتية لـ«تعزيز الوحدة بين الروس والأوكرانيين».

منذ الغزو الروسي لأوكرانيا قُتل 13 ألفًا منهم 3 آلاف مدني والجرحى 30 ألفًا، اندلع القتال في الجبهة الشرقية من أوكرانيا في أبريل (نيسان) 2014؛ إذ سيطرت قوات انفصالية مدعومة روسيًا على مدينتين في الشرق، وأعلنت استقلالهما عن أوكرانيا، وفي الجنوب في القرم عقدت القوات الانفصالية استفتاءً كانت نتيجته لصالح الانضمام لروسيا، وقابله إنكار دولي واسع النطاق.

وجاء الرد الأمريكي بتوفير دعم مالي وتسليحيّ للحكومة الأوكرانية وصلت قيمته حتى الآن إلى 1.8 مليار دولار، دون الوصول لمرحلة التدخل المباشر والتواجد العسكري على الأرض وهي خطوة قد تثير غضبًا روسيا التي ترى التصرفات الأمريكية عدائية وخطيرة وجوديًا على روسيا في منطقة نفوذها الطبيعية. عدا الدعم الاستخباراتي في أوكرانيا، تتقدّم الولايات المتحدة مع بولندا في تطوير ترسانتها العسكرية القديمة قدمَ الاتحاد السوفيتي.

وفي 2018 عقدت بولندا مع أمريكا صفقة سلاح لشراء منظومة «باتريوت» الأمريكية للدفاع الجوي قيمتها 4.75 مليار دولار، لحقتها في مطلع 2019 صفقة تسليح بـ403 مليون دولارًا. وتتناوب مجموعة من قوات أمريكية عددها 4500 جندي على بولندا، والآن يتفاوض البلدان على إقامة ألفٍ منهم إقامةً دائمة.

حذّرت روسيا من كل هذه التطورات وصنّفتها بأنها تصرفات عدائية، وتأتي عقيدة الرئيس الروسي بوتين لتؤزم المشهد أكثر: ما المشكلة في استخدام الأسلحة النووية؟ ما المانع من استخدامها في حرب محدودة ضد دولة مجاورة صغيرة؟ متجاوزًا الخط الأحمر في العقيدة السوفيتية في الأسلحة النووية، وامتدّت هذه العقيدة التهديدية لبقية أطراف الدولة الروسيّة وصار التلويح باستخدام النووي متكررًا.

كيف يمكن أن تشتعل الحرب بين روسيا والولايات المتحدة؟

لدى ماكس فيشر سيناريوهات محتملة إجابةً على السؤال. فيشر صحافيّ أمريكيّ يغطي الشؤون الدولية في صحيفة «نيويورك تايمز»، وعمل في صحف دولية أخرى، يشرح فيشر في مقال مطوّل كيف أصبحت الحرب العالمية خيارًا مطروحًا من جديد على الطاولة. ويتحدث عن معضلة تعيشها السياسة الدولية اليوم: كل طرف يفسر أفعال الآخر على أنّها عدائية ويعتقدُ أنّ أفعاله دفاعية مبرّرة. يستشرف فيشر اندلاع الحرب على واحدة من جبهتين:

دول البطليق: إستونيا ولاتفيا ولتوانيا، وكلها شريكة في حلف الناتو الذي ينصّ على أن الهجوم على دولة واحدة من الدول الأعضاء يعني هجومًا على كل أعضائه ويستوجب ردًا مشتركًا.

في سبتمبر (أيلول) 2014 صرّح أوباما من قلب إستونيا قائلًا: «سنقف مع إستونيا، ومع لاتفيا، ولتوانيا. خسرتم استقلالكم من قبل»، إبّان الحرب العالمية الثانية، و«لن تخسروه مجددًا، أبدًا، مع وجود الناتو». كان هذا بعد شهور من اجتياح روسيا لشبه جزيرة القرم.

تشهد دول البلطيق تحركًا عسكريًا كثيفًا من الناتو وروسيا يصل لمستويات الحرب الباردة، وبمرور 48 ساعة على خطاب أوباما اختطفت روسيا مسؤولًا أمنيًا إستونيًا فيما يشبه الرد على الخطاب. السيناريو المحتمل لدول البلطيق أن يحدث صدام ثانوي، سواء عمدًا وعن سوء تقدير أو بالخطأ، بين قوات روسية وقوات تابعة لدول البلطيق، يتبعه تصعيد من الطرفين – المشحونين بالفعل – ينتهي بحرب شاملة النطاق بين روسيا ودول الناتو بما فيه دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

وربما يقرّر بوتين التلاعب بالناتو، فيبدأ الحرب بتحريض حركات انفصالية روسية داخل هذه الدول تدعمها عناصر روسية «بلا شارات روسيّة»، تختلط بالأقليات الروسية في دول البلطيق لتنفذ أعمالها العدائية على الدول ما قد يشعل فوضى تضطر روسيا للتدخل حماية لمصالح الأقليات الروسية في الخارج. والتحدي الأساسي هنا للناتو وإن كان سيغامر بمهاجمة قوات روسية صغيرة مختلطة بمواطني الدول الأخرى متحملًا كلفة إشعال حرب عالمية؟ إذا كان الجواب لا، فهذا يعني انهيارًا سياسيًا لحلف «الناتو» القائم بشكل أساسي على الدفاع المشترك.

أوكرانيا: يؤكّد محللون روسيون، معارضون ومؤيدون للكرملين، أنّ الأمريكيين يقلّلون من أهمية المصالح الروسية في أوكرانيا، وأنّها على حد تعبير أحد المحللين: «خط أحمر»، لا يمكن لروسيا التجاوز عن الوجود الأمريكي فيه.

الوجود العسكري الأمريكي في أوكرانيا ما زال مخففًا بدعم مالي وتسليحيّ، دون حضور مباشر، وتأخذه لمستوى أعلى قد يرقى بالصراع من صراع بالوكالة إلى حرب مباشرة تستخدم فيها روسيا ترسانتها الكاملة، بالرغم مما يبدو من أن تلك الساحة هادئة الآن.

الصين- وأمريكا.. هل تنطلق الحرب العالمية الثالثة من هنا؟

في عام 1996 رست مدمّرة أمريكية في المياه الدولية المجاورة لتايوان، الجزيرة الدولة المنفصلة عن الصين، وتقول الأخيرة إنها أرض صينية بشكل كامل. وصول المدمّرة الأمريكية لفت انتباه الحزب الحاكم لضعف الأسطول البحري الصيني الذي لم يملك ترسانةً قادرة على مواجهتها أو الاشتباك معها، وعلى مدى عقدين عمل على تطوير أنظمة صواريخه التي لم تقدر الصين على إطلاقها موجهةً بشكل دقيق على أهداف محددة في تايوان أو على المدمّرة الأمريكية، ولكن المشهد مختلف اليوم.

لدى الصين موقف مشابه لموقف روسيا من التواجد الأمريكي بجوارها. الصين ترى أنّ الولايات المتحدة تزعجها وتتحدى وجودها في منطقة نفوذها «الطبيعي»، بينما ترى الولايات المتحدة وجودها ضروريًا لحماية حلفائها من جيران الصين وحماية لمصالحهم المشتركة.

في هذا السياق يمكن أن تقرأ يوميًا تحذيرات من «التصعيد» بين البلدين، مع استمرار الحرب التجارية التي عمل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الترويج لها منذ حملته الانتخابية، متوعدًا معاقبة الصين على انتفاعها من الاقتصاد العالمي المفتوح على حساب الآخرين، بما فيهم الولايات المتحدة وتجارتها.

العقيدة الاقتصادية التي يتبناها ترامب في هذا الصدد هي العمل على نقل عمليات التصنيع والإنتاج (بما في ذلك المصانع) من الصين، التي تشغّل عمليات الإنتاج بعمالة صينية رخيصة، إلى الولايات المتحدة، لتوفّر وظائف وأعمال للأمريكيين، وامتدت هذه الحرب التجارية لتشمل هجومًا على شركة «هواوي» باعتبارها خطرًا على الأمن القومي الأمريكي وأداةً ربما يستعملها النظام الصينيّ للتجسس على الولايات المتحدة، وعدة دول أخرى منها كندا، وبريطانيا.

في الولايات المتحدة فريقان يتصوران طريقة تعامل مختلفة مع الصين. الفريق الأول يروّج لسيناريو حتميّة الصعود الصيني وضرورة احتواء أمريكا لهذا الصعود دون صدام مباشر، وفي هذا الفريق خازن الدبلوماسية الأمريكية وذاكرتها، هنري كيسنجر. وضدّ هذا الفريق يأتي ستيف بانون، مستشار الأمن القومي السابق لترامب، وزعيم الحراك الشعبوي اليميني في الولايات المتحدة. يعتقد بانون أنّ الحرب مع الصين حتميّة، ويرى أن كيسنجر ومن معه تأقلموا مع مشهد انحدار النفوذ الأمريكي، ويرفض حتميّة صعود الصين، ويبشّر بحرب عسكريّة معها في بحر الصين الجنوبيّ.

بحر الصين الجنوبيّ تدّعي خمس دول وقوعه ضمن نطاقها السياديّ، الفيليبين، فييتنام، ماليزيا، بروني، وتايوان، وفي قلب البحر تأتي جزر سبراتلي، وهي مجموعة من الجزر والشعب المرجانية، وفي السنوات الماضية بَنَت الصين جزر اصطناعية رملية بالقرب من جزر سبراتلي، وأنشأت عليها مطارات عسكرية وقواعد إطلاق صواريخ، ومراكز إمداد ودعم للأسطول الصيني. تحاول الصين أن تُثبّت سيادتها على البحر بهذه الجزر.

تطبّق الصين سياسة أخرى لابتلاع جزر سبراتلي، «سياسة الملفوف»، إذ تُحيط إحدى الجزر الصغيرة بعدد من سفنها الحربية والتجارية وقوارب الصيد بحيث تعزلها تمامًا عن العالم الخارجي، وفي الجزيرة المعزولة يتمركز جنود فيتناميون أو فليبينيّون على سبيل المثال.

لبحر الصين الجنوبيّ أهمية كبيرة، 30% من سفن النقل التجاري حول العالم تمرّ منه ناقلة معها ثلث التجارة العالمية، وفيه ثروات نفطيّة وغازية تختلف الدول المُطلة عليه بالسيادة عليها، وفيه 10% من مصائد الأسماك في العالم. وتؤكد الصين على ما تعتبره حقها بالسيادة على 90% من مساحة البحر.

تعمل الصين على فرض نفوذها بخطوات هادئة. حذَّرت من استعراض العضلات الذي تمارسه أمريكا في البحر. في أغسطس (آب) من العام الماضي نفّذت الولايات المتحدة عمليات ملاحة بجوار بعض الجزر الصينية وعلى مقربة منها، تأكيدًا لحق «حرية الملاحة» في المياه الدولية وتقويضًا لمقولات الصين حول سيادتها على مياه البحر، وفي واحدة من الحالات ردّت الصين بإطلاق مدمّرة بحرية ومقاتلة أخرى إنذارًا للأمريكيين، وبالرغم من ذلك تتابع البحرية الأمريكية جولات الملاحة بشكل مستمر.

يتوقّع بانون وقوع مواجهة مباشرة بين الدولتين في منطقة بحر الصين الجنوبيّ، واشتعال حرب بين البلدين لا يعني خاتمةً يرفع فيها العلم الصيني في البيت الأبيض أو يتمشى فيها جنود بيض بعيون زرقاء في بكين، وإنما مواجهة في شرق آسيا، بين الولايات المتحدة وحلفائها هناك، وقد تنضمّ لأمريكا اليابان وكوريا الجنوبيّة، بينما تعسكر كوريا الشمالية مع الصين.

في كل هذه السيناريوهات، ستبقى أمريكا محمية وبعيدة بسبب طبيعة جغرافيّتها. ما سيحصل في هذه الحرب إمّا تدمير القدرات الهجومية الصينية وإرغامها على التراجع من البحر، أو انتصار للصين يثبّت نفوذها في المنطقة ويبعد الولايات المتحدة عنها لأطول فترة ممكنة.

تصوّر بانون عن الحرب يشمل تركيا وإيران، أو «فارس» كما يحبّ بانون تسميتها. ويعتبر أن الصين بالإضافة لهاتين الدولتين يمكن أن تشكّلا محورًا دوليًا معارضًا للولايات المتحدة ومصالحها، بل للغرب أجمع. فلكلّ هذه الدول تاريخ من الحكم السياسي العريق، والصين ترى التوسع الآن ضرورة طبيعية، وتركيا وإيران تصعدان من خلفية دينية إسلامية، واجتماعهم في محور واحد يهدّد الحضارة الغربية، وقيمها المسيحية – اليهودية بحسبه.

سابقًا امتلكت الولايات المتحدة قوة التحليق في السماء وعبور البحار وحدها دون منافس لها، ولكن العالم اختلف اليوم. بالرغم من تفوّق الترسانة الأمريكية، إلا أن الصين تطور جيشها بشكل مستمر منذ عقدين، وتنفق اليوم على التطوير والأبحاث ما يصل إلى 370 مليار دولار، بينما تنفق أوروبا مجتمعةً فقط 320 مليار، وتسبقهم جميعًا الولايات المتحدة بـ476.5 مليار دولار، وقد تلحق الصين بأمريكا في خمسة أعوام من الآن.

المصدر
ساسة بوست + وكالات
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى