تحت الضوء

تحت الضوء

د. هاشم غرايبه

يعتبر كتاب “نظام التفاهة” من أهم الكتب الفكرية التي صدرت في القرن الجديد، وهولأستاذ الفلسفة الكندي “آلان دونو”، وقد نشر باللغة الفرنسية عام 2015 وترجمته الى العربية الكويتية “مشاعل الهاجري”، وصدر عن “دار سؤال” اللبنانية عام 2020. كان دافع هذه الباحثة الى ترجمته أنها وجدت فيه الإجابة عن سؤال يؤرقها، وهو كيف وصل التافهون الى السيطرة الكاملة على كل مفاصل اتخاذ القرار في كافة النواحي السياسية والفنية والأدبية والاجتماعية في منطقتنا العربية، فتقول: “كفاني المؤلف مؤونة أن أدبّج كتاباً مكرّساً لنفس القضية التي تشغلني وأعفاني من إعادة اختراع العجلة”. يرى الكاتب أن العالم مقبل على كارثة محققة، فقد تشيّدت شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي السطحية الفكرية، وتسلمت كافة المواقع المؤثرة اجتماعيا وفنيا وإعلاميا، وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية. ولم يتم ذلك إثر حرب عالمية أو احتلال عسكري، بل عن انقلاب قوامه المحاصرة التدريجية لمختلف جوانب الحياة ومن ثم الانقضاض على مفاصلها. يشرح “دونو” كيف يتمّ ذلك من خلال توضيح كيف جرى هزّ معايير الكفاءة، حيث يشير إلى أن تحصيل التافهين لمواقع لأي سبب من الأسباب يجعلهم يبحثون على أشخاص تافهين لتحصين موقعهم، وعلى أساس هذا التخوّف على الموقع تُبنى بالتدريج شبكة من التافهين تحصّن فيها كل نقطة بقية النقاط في الخريطة الاجتماعية، ومن ثمّ إسباغ التفاهة على كل شيء. ويعرف التافه بأنه الشخص المتواضع الذكاء والذي لا يلمع في أي مجال، أو عديم الموهبة، وهؤلاء يجب أن يبقوا مقودين وليسوا قادة لأنهم متلقون غير مبدعين، وخطورة إسناد القيادة لهم أن ذكاءهم المتواضع سيحدد السقف الأعلى للمنتج الجمعي للمجتمع، ولن يسمحوا للأكثر تفوقا أو ألمعية بالتواجد الإنتاجي، وهكذا تصبح التفاهة بديلا للكفاءة. ويعزو “دونو” سبب هذا الانقلاب الى ما سماها (سياسة المصنع)، التي انتهجتها الرأسمالية مع بدء القرن التاسع عشر، حيث قسم العمل اليدوي والفكري الى أجزاء صغيرة في خط الإنتاج، وحدد دور الشخص في حلقة محدودة في عمل مكرر كالآلة، لا ابداع فيه سوى سرعة تأدية الدور المطلوب. إذا ما أسقطنا هذه الحالة من التفاهة العالمية الشاملة على منطقتنا العربية، سنجد أنها تفاقمت جراء القبلية التي حكمت مجتمعاتنا قرونا، وانتقلت في القرن العشرين مع التغير العالمي الى النظام السياسي المتغرب مع بقاء الروح القبلية، فترسخ التخلف الإجتماعي أكثر بدل أن يتواءم مع الديمقراطية الغربية، فتأسست مكونات الأنظمة السياسية وفق القبلية الوراثية التي لا تراعي الكفاءة والموهبة، واستمالت المنافقين الذين هم عادة تافهون، وأسندت إليهم إدارة الشؤون العامة، لذلك نشرت التفاهة في كل المرافق، واصبحت نمطا سائدا تميز بالإهتمام بالمظاهر على حساب الأولويات، بهدف إقناع الشعوب بالإنجاز، بديلا للإنجاز الحقيقي وأولها الاستقلال السياسي المرتكز على الاعتماد على الذات عسكريا واقتصاديا، والذي ينتقض بوجود الكيان اللقيط وهيمنته. لذلك لن يتحقق التمكين الاقتصادي والاجتماعي، الذي هو أول درجات سلم التقدم في ظل التبعية والخضوع للهيمنة الصهيونية والخنوع (المسماة التطبيع والتنسيق الأمني)، وسيظل أصحاب القرار التافهون يقلبون الأولويات، فيركزون على الإهتمام بالمظاهر السخيفة التي تظهر التقدم، فيما الجوهر عفن مهترئ. المعروف أنه لم تتمكن الى الآن أية دولة عربية من صنع شفرة حلاقة، ولم يسجل أي منتج صناعي مهما كان صغيرا عربي المنشأ من انتاج ذاتي، فكل الصناعات فيها تحويلية أو تجميعية. لذلك لا أعتقد أن شخصا عربيا واحدا غير تافه، قد ساوره شعور بالفخر تجاه مشاركة الإمارات في تمويل المسبار الصيني الذي أرسل الى المريخ، مقابل وضع اسمها عليه، ولا يمكن أن ينخدع أحد، بذلك الحدث، فيصدق بأن هنالك تقدما لدرجة غزو الفضاء. بل على العكس سيثير الشجون أكثر، انكبابنا على التفوق في التفاهات، مثل بناء أعلى برج أو صنع أكبر حبة فلافل أو إشعال أكثر كمية من الألعاب النارية، فيما أجواؤنا مستباحة للكيان اللقيط، وبحارنا تمخرها بارجات وحاملات طائرات الغرب بلا استئذان، وقرارنا السياسي غير سيادي بل ذيلي ذليل، ومرتهن لمصالح الغرب ووفق إملاءاتهم. كنا سنفرح أكثر بكثير، ونشعر بالفخر والتقدير، ومن غير أن يتكلف حكامنا درهماً ولا ديناراً، لو تباطأت وتيرة الانبطاح للعدو. المقاومون للمحتل لا يطمعون بدعم منهم ولا عونا، بل فقط توقفهم عن محاصرتهم والتآمر عليهم.

Aa

مقالات ذات صلة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى