بلا مجاملة

بلا مجاملة
د. هاشم غرايبه

عندما ذهبت الى العراق في بداية دراستي الجامعية عام 1970 ، كان أول ما فاجأني، سؤال البعض: هل أنت شيعي أم سني؟، حقيقة لم أكن آنذاك أعرف ماذا يعني ذلك، فلم يكن أحد في بيئتنا يطرح هذا الأمر، وفي المناهج التعليمية لم يعلمنا أحد ما يشير الى هذه التقسيمة.
ولم أكن أعلم توزيعات مناطق بغداد المذهبية، حينما كنا والآخرون من الطلبة العرب نبحث عن استئجار شقة للسكن، وتفسير قبول المجاورين وجودنا في حي الأعظمية، فيما رفض ذلك قطعيا في حي الكاظمية الملاصق.
ليس غياب الانقسام الطائفي في الأردن مرده إلى قلة متبعي مذهب الشيعة، بل الثقافة والتربية، إضافة الى ميزة عدم وجود النفس التقسيمي في المجتمع، فقد كانت هنالك طائفة يسمونهم “المتوالية” وجاءوا من جنوب لبنان، لم يكن أحد يدعوهم شيعة، من باب عدم التذكير بالفارق المذهبي، ولم ينكر عليهم جيرانهم اتباعهم طقوسا مختلفة، بل على العكس، فمن عادة المجتمع الأردني إكرام الأقليات واحترام ثقافتهم وعاداتهم، ومشاركتهم مناسباتهم، لذا كانت العلاقة مع هذه الطائفة في أرقى صورة.
وفي قريتي لم يكن هنالك غير عائلة واحدة مسيحية، لكنها لم تشعر يوما بالغربة في محيطها الاجتماعي، إذ كانت تحظى باحترام الجميع ومحبتهم، ولم يكن جيرانها ومعارفها يذكرون موضوع الدين بوجودهم، حتى لا يذكرونهم باختلافهم، ولا يناقشون المعتقد معهم، فكان المبدأ المعتمد : (كل من على دينه الله يعينه).
خطر كل ذلك ببالي وأنا أقرأ لأحد العراقيين مقالة ينتقد فيها توجهات الحكومة العراقية للانفتاح على المحيط العربي، وتوقيعها اتفاقيات تعاون اقتصادي مع مصر والأردن.
ينضح الحقد الطائفي من ثنايا كلامه، عندما يتهم العرب (كون غالبيتهم الساحقة سنيين) بأنهم يتعاملون مع العراق بطائفية، وأنهم أداروا ظهرهم للعراق في محنته، بالمناسبة فهو لا يعتبر محنة العراق في التدمير والاحتلال الأمريكي بل في حكم البعثيين قبله، رغم أنه معروف أن حزب البعث علماني لا يؤمن بالدين أصلا، فلا هو سني ولا شيعي، بل إن مؤسسه مسيحي.
كقاعدة عامة، لا شواذ لها، الطائفية والإقليمية والعنصرية هي أمراض مجتمعية، تلجأ إليها الأقليات كقوقعة حمائية في مواجهة الأغلبية، ولأن الأغلبية لا تخشى الذوبان وفقدان التأثير، فليس لها مصلحة في إثارة هذه النعرات.
ولما كانت الطائفية مرذوله ومتبعها مذموم، فالطائفي لا يمكن أن يعترف بأنه كذلك، وسيبرر فحيحه بها أنه رد على طائفية المقابل.
الخطير في هذا الفحيح أنه يجد آذانا صاغية أكثر بكثير من الأصوات المتعقلة الداعية الى الوحدة والتآلف، مما يزيد في استشراء هذه النعرة.
كما يبعد فرصة الإصلاح وإعادة تصويب الأمور، لأن أكبر ذريعة للفاشل أو الفاسد هي أنه يحافظ على هذه القوقعة النتنة.
ولما كان الطفيليات المتسلقة والانتهازية لا يمكنها التكاثر والنمو في الأجواء النظيفة حيث النور والانفتاح ، بل في العتمة التي توفرها القوقعة، لذا تجد الطبقة الحاكمة الفاسدة هي أكثر الداعمين والمشجعين لهذه الحالة المرضية.
قد يتساءل المرء أحيانا: ألم تكف 18 عاما من فشل هذه النخبة السياسية التي حكمت العراق بهذا النفس الانعزالي عن المحيط العربي، في تقديم أبسط الخدمات الأساسية للوطن كالكهرباء والماء والنظافة.. لكي تفتح العيون الكليلة عن رؤية عيوب النظام الذي جاء على خلفية انتزاع الحكم من السُنة؟.
هل حقا كانت كرامة ابناء المذهب الشيعي مهدورة واستعادها نظام الحكم الحالي، أم أنه أهدر كرامة الوطن بكافة مكوناته، حينما ارتضى لوطنه الاستعمار المزدوج، ووضع نفسه رهن إشارة متحكمين أجنبيين اثنين هما أمريكا وايران، لا يضمر أي منهما خيرا للعراق!؟.
ليس تمجيدا لنظام الحكم السابق، لكن ألا يلمس المواطن العادي كم خسر في ظل نظام المحاصصة الطائفية الحالي من مكتسبات، لم يكن يحس بقيمتها الا بعد أن فقدها؟.
وقتها كان العراق غنيا وقويا ومكتفيا، ورغم التخبط السياسي الذي أنشأته الفردية وتغييب الرأي الآخر، إلا أن تحقيق النظام السابق للاستقلال السياسي، حقق الكرامة للمواطن والرفعة للوطن، كما أثمر غياب الفساد، الازدهار لكليهما.
من كان حريصا على العراق، يجب عليه أن يفهم أن علاقته مع أمته العربية الإسلامية مصيرية، والتاريخ يسير في اتجاه وحد، فلن يعود العراق سومريا أو كلدانيا، والإسلام يمحو ما قبله، فبعد أن حرر العراق من التبعية للأكاسرة، لن يعيده إليهم، ولو لبسوا العمامة بدل التاج.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى