الحسبان يكتب: عن أم قيس و”المكتشفين” الجدد وقهقهات مينيبوس الجاداري وصرخاته

عن أم قيس و”المكتشفين” الجدد وقهقهات مينيبوس الجاداري وصرخاته.

د. عبدالحكيم الحسبان
ذات يوم من أيام شتاء العام 2016، شهدت أحدى أحواش البلدة القديمة في أم قيس تدشينا لأحد المشاريع العلمية الخاصة بالموقع الأثري في البلدة، وتحديدا النفق الأثري فيها. وأثناء حفل الاحتفال جرى نقاش موتور، وإن كان الحضور كما المنخرطون في النقاش حافظوا على قواعد اللياقة في الحديث والنقاش، برغم كل التوتر الذي غلف النقاش، سيما وأن السفيرة الأمريكية حينها كانت بين الحضور. وأما مصدر التوتر في النقاش فقد كان إصرار أحد الحضور على تقديم نفسه باعتباره الأب العلمي للنفق الأثري والراعي الاثاري لأعمال تطوير النفق، ما استفز حينها عطوفة مدير عام دائرة الآثار العامة الذي أضطر لتقديم مداخلة يفرمل من خلالها تلك الاندفاعة  من قبل هذا الشخص في تبني اكتشاف النفق أمومة وأبوة(مع تنوين فتح التائين).

قبل تلك الحادثة وبعدها، تكاثرت الروايات كما الادعاءات حول النفق، وتناسلت أعداد المكتشفين لهذا النفق، كما تناسلت أعداد من يدعون أبوة هذه النفق، كما شهدنا صورا وتسجيلات لخمسين امرأة عاقر يدعين كلهن أن النفق ولد من رحم كل واحدة منهم، وأنهن يحتفظن بجيوبهن بوثائق وصور وأبحاث تثبت واقعة الولادة، كما تثبت علامات الحمل والمخاض وآلامهما. وأما المأساة الحقيقية، فلا تكمن في كثرة أعداد “المكتشفين”، ولا في زحمة طوابير “مدعي الاكتشاف”، بل تكمن في كثرة المحتفلين مؤسسات وأفرادا، فيمن يصطفون في تلك الطوابير الطويلة التي اصطف فيها “المكتشفون”.

في مشهد مسلسل الاحتفالات وليالي “التعليلة” الطويلة المتعلقة بنفق أم قيس، يحتفل القوم ب”المكتشف” أو بمن توهم أنه المكتشف، كما يحتفلون بمن ملأ الدنيا صراخا بأنه “المكتشف” عله يثبت من خلال صراخه أنه فعلا المكتشف، فينتقل حينها من مرحلة التوهم إلى مرحلة التيقن بأنه المكتشف.

 في منطق علم الآثار وتخطيط المدينة، وفي منطق العمل الأثري فان عالم الآثار نادرا ما يكتشف، ونادرا ما يقوم “بفعل أو فعلة الاكتشاف”، وخصوصا حينما يتعلق الأمر بالمراحل التي تمثل ذروة الإبداع العمراني والحضري الإنساني، فمخطط المدينة معروف، ومكونات عمارتها معروفة، وتوزيع الصروح المعمارية فيها معروف، ويذهب عالم الآثار لا ليكتشف، ولكنه يذهب ليميط اللثام عما هو موجود عنده في مخططات المدينة ذات التخطيط الهلنستي. ويذهب عالم الآثار في مهمات علمية تتجاوز كثيرا دور “الحقيف” أو “الحفير”، بل هو يذهب من أجل التوثيق والتحليل والتفسير والتقديم والتطوير….لهذا الموقع أو ذاك.

وفي منطق الدبيكة  والمحتفلين “بالاكتشاف” و”المكتشفين” يغيب وعن قصد ذلك العمل العلمي الكبير والهائل الذي يستحق الاحترام الذي قام به عالم الآثار الالماني الحديث توماس فيبر، والذي سبق وأن وثق وكتب عن نفق أم قيس في ثمانينات القرن الماضي.

وفي مقابل مشهد المحتفلين وحشد الدبيكة في تلك التعليلة التي تحتفي بمن اكتشف أو بمن اكتشفوا النفق، يغيب عن “المكتشفين”، كما يغيب عن مدعي الاكتشاف، أهل جادارا وشعبها، الذي أمعن العقل والفكر وأطلق اليد الماهرة كي ينشأ المدينة بعمارتها البديعة، وبتخطيطها الحضري الفذ، وبقواعد الحياة السياسية والاجتماعية العبقرية فيها.  المكتشفون الجدد لا يريدون لنا أن نحتفي بعبقرية أهل جادارا، بل هم لا يرونها، ولا يعرفون عنها، ولكنهم يريدون لنا أن نحتفل بعبقريتهم هم في تحقيق الاكتشاف الموهوم والمتوهم. جل ما يريدون هو قطف أكبر قدر من الغنائم والكؤوس والاوسمة وقصائد المديح لهم، وليس لأهل جادارا الذي أبدعوا أول مرة حين بنوا الموقع قبل الفي عام، وعادوا  ليبدعوا مرة ثانية، وليبنوا الموقع التراثي قبل مئتي عام.

وفي مقابل مشهد المحتفلين والدبيكة بالمكتشف والمكتشفين، أكاد أرى شاعر جادارا ملياغروس، وقد فضل السكوت برغم انزعاجه الشديد من أصوات الدبيكة، وأصوات المجوز التي يعزفها المكتشفون نشازا، كما أكاد أرى فيلسوفها الكبير أرابيوس وقد آثر هو أيضا السكوت، ومن باب الحكمة التي تقول أن أبلغ كلام الفلاسفة هو الصمت، وأما من أكاد أراه ينتفض ويعيش في ثورة حقيقية، وقد ملأت أصوات غضبه وشتائمه كل أركان المكان في جادارا، فهو فيلسوفها وحكيمها الكبير مينيبوس (منيب) التي تعتبر موسوعات الفلسفة الغربية، أن إبن جادارا هذا، كان هو من أنشأ فن الكتابة الساخرة، وهو أول من استخدم اللغة ليصنع منها فن السخرية، وليصنع من السخرية مقولات في الفلسفة وفي الوجود.

ملحوظة. خلال أيام ساعلن عن ستة من اكتشافاتي الجديدة والتي سيكون اهمها اكتشافي وبالصدفة لوجود مدينة الحسن الصناعية شمال شرق مدينة اربد، كما ساعلن عن اكتشافي لجامعة العلوم والتكنولوجيا برضه بالصدفة.

I

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى