“اهلا حكيم!”

“اهلا حكيم!”
د. محمد شواقفة

كان أهل القرية يلجأون في كل مصاب لذلك العجوز الضرير في بيته المتواضع ليطلبوا منه الحكمة و المشورة في كل ما يلم بهم من صنوف الدهر و أنوائه. لم يكن يناله منهم شئ الا ان الجميع كان يكن له احتراما و تقديرا لسداد رأيه و صواب مشورته. و كانوا يرسلون ابناءهم اليه ليعلمهم بعضا من ادب و حكمة و دين.
نزل في أرض قريتهم نجار من بلدة بعيدة، كانوا يمرون من أمام متجره و يرونه يجمع الاخشاب و يعمل على تشكيلها أسرة و كراسي و طاولات و لكنهم لم يكونوا قد شاهدوا هذه الامور من قبل و كذلك حكيمهم كونه ضرير و كونه لم يغادر القرية منذ ولد فيها. لم يفهم النجار لماذا يصر الجميع على زيارة الحكيم و يرسلون ابناءهم اليه مقابل احر زهيد و لا أحد يقترب من متجره مهما فعل و دخل الشك الى قلبه بأنه قد يكون الحكيم هو من يمنعهم من شراء ما يصنع.
أخبر الناس أنه سيهدي من يشاء أي من مقتنياته و دون مقابل و بدأ الناس بالفعل يتهافتون على المتجر يستكشفون ماهية هذه الاشياء البسيطة و لكنهم لم ينقطعوا عن زيارة الحكيم ولا هم توقفوا عن ارسال فلذات اكبادهم اليه.
توالت الايام تترى و اعتاد الناس على النوم على الاسرة و الجلوس على المقاعد و استخدام الطاولات و بدأ الناس يطلبون المزيد من النجار و لكنه تحجج لهم بأنه لا يستطيع ان يمنحهم ذلك دون مقابل، فقالوا له ولكننا لا نملك مالا نعطيه لك. قال لهم :بل تملكون! لماذا تمنحون ذلك الحكيم من اموالكم و هو لا يفيدكم بأي شئ وأنا أتعب و أشقى لتسهيل أمور حياتكم وها انتم ترون ان باب بيتي “مخلوعا”.
بالفعل تناقصت أعداد مرتادي بيت الحكيم و منهم من قاطعه بدون سبب و بدأ الكثير يتردد على متجر النجار و رويدا رويدا اختفى دور الحكيم من القرية الا من دروس الصغار و صار جل اهتمامهم النجار.
اقترح النجار عليهم ان يتوقفوا عن ارسال ابنائهم الى دروس الحكيم و اقترح عليهم ان يتولى تدريب ابنائهم عل اعمال النجارة كمهنة للمستقبل تجعلهم اكثر فائدة من تعلم الادب و الشعر و الفلسفة.
بالفعل بات النجار هو سيد القرية بما يصنع و امتلك كل مفاتيح بيوتها بتدريب الصغار بعيدا عن الحكيم رغم ان بابه لا يزال مخلوعا .
اقنع النجار تلاميذه بأن سبب تأخر القرية و تخلفها هو بسبب أفكار الحكيم الفلسفية التي تجعلهم أسرى العادات و التقاليد البالية. فمفهوم ان كل الناس شركاء في كل شئ ليس عادلا بالنسبة لهم كشبان اكتسبوا حرفة و باتوا أفضل من الجميع، و بأن احترام الكبار قانون يحظر كسره ليس له ما يبرره و بأن التشاور في كل الامور صغيرها و كبيرها مضيعة للوقت و خسارة لطاقات الشباب.
اقنع الشبان اهل القرية بان الحكيم كان يبيعهم طوال عمرهم الوهم و التخلف. هاجموا بيته و احرقوه و لم ينج من حطام بيته سوى يافطة كتب عليها “بيت الحكيم” حملها طفل صغير و ذهب بها لبيت النجار و وضعها على باب بيته المخلوع ليصبح بيت الحكيم الجديد.

“دبوس على الحكمة”

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى