الهـوية الوطنيـة واللغــة / د. قــــدر الدغمـــي

الهـوية الوطنيـة واللغــة

تُـعرف الهوية: بأنها مجمل السمات التي تميـز شيئاً ما عن غيره أو شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيرها، ويذهب الكثيرون إلى أن الهوية هي وعاء الضمير الجمعي لكتلة بشرية معينة، تشتمل هذه المحفظة على جملة من القيم والعادات والمقومات، وهذه المقومات تكيّف وعي الجماعة وإرادتها في الوجود والحياة، وتعمل على حفظ كيانها، نستشف من هذا التعريف أن الهوية ليست فقط تمييز للذات، وانما دفاعا عنه ايضا، ونحن نرى ذلك جليا فيما يعرف بصراع الثقافات والاستلاب الثقافي، وهو المواجهة بين المحلي والمستورد على كل المستويات، بداية من تفضيل الطعام مرورا باللباس الشعبي إلى عالم الأدب والفن ومنظومة القيم والاخلاق وغيرها، وقد عرف أرسطو الهوية على أنها: “وحدة الكائن، أو الشيء الواحد المتطابق مع نفسه.
فالتاريخ المشترك والفضاء الجغرافي الواحد، تجعلنا نعتقد بأن التاريخ والجغرافيا باعتبارهما الفضاء الزماني والمكاني هما عناصر لهوية، ومن شروط الهوية وجود الآخر، لذلك فإننا لا نستطيع أن نتكلم عن الهوية الإنسانية، لأنه لا وجود لند أو لضد للإنسان على هذه الأرض.
في هذا السياق لا نستطيع أن نهمل موضوع الهوية الدينية، فللدين سلطان في تقريب الناس ذوي العقيدة الواحدة ووسمهم بخصوصيات تكسبهم هويتهم المميزة، لذلك يجب أن نعترف بأن الهوية الدينية لم تستطيع تجاوز المحلي، وقد تلون الدين “رغم سطوته” باللون المحلي احيانا كثيرة، وهناك الوان للدين الواحد في بيئات مختلفة، فعلى سبيل المثال المسيحية الاوروبية تختلف عن مسيحية الشرق، ومسيحية امريكا الشمالية تختلف عن امريكا الجنوبية، وحتى الإسلام لم يكن بمنأى عن اللون المحلي، فقد ارتدى الإسلام الثوب المحلي واصبح له لون في فضاء ما يختلف عن لونه في فضاء كوني آخر، وقد وسمته الصراعات السياسية بالمذهبية الضيقة، والتي كان اساسها بالأصل فكري مستنير فاصبح سياسي بامتياز.
عندما هاجر النبي (ص) إلى المدينة المنورة كتب ميثاقه المشهور الذي بنى عليه أسس دولته الوليدة، فكان هذا الميثاق وثيقة مهمة رسخت على زمنه هوية الأمة، التي لم تكن مبنية على العقيدة المشتركة وإنما على أسس التعايش المشترك بين مكونات الدولة، لقد كان عقد اجتماعي سبق به ميلاد الدولة العصرية بقرون عديدة، فقد نصت الوثيقة على المساوة في الحقوق الأمنية والثقافية والسياسية بين المسلمين وغير المسلمين من يهود ومشركين، أي المساوة بين كل ساكني المدينة المنورة.
العلاقة بين الهوية واللغة .. يعتقد علماء اللسانيات أن الكيانات الاجتماعية تتأسس على أساس لغوي، أي أن القاسم الرئيسي في هوية أي مجتمع هو اللغة، والفارق الأساسي في تمايز كتلة اجتماعية عن أخرى هو اختلافها في اللغة، لذلك يعتقد البعض أن الهوية واللغة هما وجهان لعملة واحدة.
لقد نصت غالبية دساتير الدول العربية، على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، وفي الواقع ليست الرسمية فقط بل والوحيدة ايضا، لذلك عملت السياسات الرسمية على محاولة قهر اللغات الاخرى بذريعة التجانس القومي والوحدة الوطنية، وقد حاولت تسويغ هذا المفهوم من خلال التأكيد على قدسية اللغة العربية كخيار ديني، أو من خلال الإيحاء بأن اللغات الأخرى هي تفرعات عن اللغة العربية، أو أن الأثنيات الأخرى ذات أصول عربية.
وفي المحصلة أن تعدد اللغات وتعدد الشعوب حقيقة كونية، فاللغة أي لغة هي مكون أساسي من مكونات الهوية الوطنية، والمحافظة عليها يجب أن ترقي إلى مستوى الواجب، وتعدد الهوية لا يعني أن الهوية أمرا ثابتا، بل قد تتكون وتتطور الهوية عن هوية أخرى، وقد تتعدد الهويات عن هوية واحـدة.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى