العربيّ كما رُسِم”

العربيّ كما رُسِم”

د. علي أحمد الرحامنة

إنه عنوان مقالة كتبها المفكّر #العربي #الفلسطيني الأميركي، #إدوارد_سعيد، الذي تمرّ بنا هذه الأيام الذكرى الثامنة عشرة لوفاته. ومقالة “العربيّ كما رُسِم” (The Arab Portrayed) كانت أشبه بإعلان إدوارد سعيد وداعه لمرحلة من حياته، ودخوله أخرى، بدءا من العام 1968، وقد نُشرت المقالة في عدد خاص من مجلة العالم العربي، وأُعيد نشرها في عدد كبير من الصحف والمجلات. ولعلّ نكسة 1967، والانحياز الغربي عموما، والأميركي خصوصا، لإسرائيل، دفع بإدوارد سعيد إلى يقظة عروبية فلسطينية “وشرقية” من نوع خاصّ. فقد لاحظ، وهو البروفيسور العارف بما يدور في “مجتمعه الأميركيّ”، أن حجم الانحياز الإعلامي والسياسي وشتّى أشكال الدعم والانحياز غير المبرّر للمعتدي الإسرائيلي على حساب العربي المعتدَى عليه، والمحتلة أرضه، والمهجّر، فاقت كلّ الحدود. وبذا، يعود إلى جذوره، هذا الفلسطيني المولود في القدس عام 1935، الذي حرص أبوه على إبعاده عن العمل السياسي، وأرسله للدراسة في الولايات المتحدة، منذ العام 1951. ومضى سعيد بعيدا في مشواره الجديد، بل إن تعبيره عن تجربة المنفى، جعلت الكثير من قرائه في الغرب يرونه تجسيدا للمأساة الفلسطينية. وقد كتب بالفعل فيلما وثائقيا لعب فيه دور الراوي من إنتاج “بي بي سي” عام 1998 حمل اسم In Search of Palestine (في البحث عن فلسطين) قدم فيه قصة حياته بكونه عنصرا صغيرا من عناصر النكبة التي ما زالت مستمرة. وهو يقول في مقاله له نشرتها مجلة “لندن ريفيو أوف بوكس”: “وُلدت في القدس، وأمضيت معظم سنوات تكويني هناك، وبعد عام 1948، أصبح أفراد أسرتي كلهم لاجئين في مصر”.

كانت لأعمال سعيد الفكرية أصداء شتّى، وبالخصوص، لكتابي (الاستشراق) (Orientalism) وكتاب (المسألة الفلسطينية) (The Question of Palestine)، وشكّل الكتابان جزءا أساسيا من مسار سعيد المهني، صوتا للفلسطينيين في مواجهة الإسرائيليين، بل صوتا للعرب والمسلمين والشرقيين الآخرين في مواجهة سياسات الغرب ككل. ومن المفارقات أنه في المرّات العشر التي نشرت فيها مجلة The New York Times Book Reviews عن سعيد، لم تُذكر فلسطين مرّة واحدة!

أكثر من أربعين كتابا ألّفت عن إدوارد سعيد وأعماله، إلى جانب أعداد كبيرة من الرسائل الجامعية والبحوث المتخصصة، كما تقدم جامعة جورج تاون وكاليفورنيا وجامعات أخرى برامج دراسية عنه، وقبل ذلك، له عشرات الكتب ذات المكانة في التراث الفكري الإنساني. ولقد وصفه مقال نقدي عام 2001 في صحيفة “الـغارديان” بأنه “أكثر مفكري عصرنا تأثيرا.

ربّما كانت النكسة-الصدمة مقدمة المشروع الكبير الذي أثمر في كتابه ذائع الشهرة، (الاستشراق) (Orientalism)، الذي نُشر عام 1978، والذي مثّل بحق علامة فارقة في فكر القرن العشرين، وهو الفكر الذي لا خلاف في أن إدوارد سعيد كان من أبرز أعلامه. و”العربي الذي رُسم”، هو ذلك الشخص “الشرقي”، هو “الآخر” المتخيل، وهو الشخص الذي ينبغي أن يخشاه الغرب أو يسيطر عليه. فالصورة النمطية للشرقي عموما، وللعربي خصوصا، تكرّست في الرسم والرواية والفيلم السينمائي والدراسات “الهادفة” ومختلف أدوات الدعاية والإعلام، لتجني ثمارها المواقف السياسية ومختلف أشكال الاستغلال والسيطرة والهيمنة والحرب والاستقواء.

يرصد سعيد في كتاب “الاستشراق” مراحل في العلاقة بين الشرق والغرب، وخاصة منذ غزو نابليون لمصر، ونشأة دراسات المستشرقين الحديثة في أوروبا، حتى انتهاء حقبة الاستعمار البريطانية والفرنسية على الشرق بعد الحرب العالمية الثانية وظهور السيطرة الأمريكية. ونتاجا لهذه الآلة الاستشراقية، يظهر الشرقيون والعرب على أنهم سُذّج ومغفلون وكسالى، وقساة وينزعون إلى اللذة الحسية، وشهوانيّون بصورة مَرَضية، وكاذبون، وماكرون، ومتقلّبون، وفي أحسن الأحوال عاطفيون حالمون غير واقعيين ولا علميين أبدا، بعكس الغربيين!! ويوصّف سعيد كيف رسم الفرنسيون والبريطانيون، قبل أن يفعل الأميركيون، خصائص جوهرية تمثل “نحن” (الذات، الغرب) “وهم” (الشرق، الآخر). إن العربي كما رُسِم، وبعد أكثر من خمسين عاما، لا يزال هو العربي في المخيال الغربي عموما، والأميركي على وجه الخصوص، بتعديلات طفيفة لا تمسّ الجوهر، … ولربما أتت أعمال “داعش” وأخواتها ومدارس التطرّف والخطاب الإرهابي لتصبّ في طواحين من أرادوا رسم الصورة المسيئة للعربي، مع أن مئات ملايين العرب والمسلمين منها براء.

وحين تناول إدوارد سعيد في كتاب (الاستشراق) ماهية الاستشراق وخلفياته (يفضلون حديثا استخدام مصطلح “الدراسات الشرقيّة” Oriental Studies)، بيّن كيف استطاعت الثقافة الغربية أن تنتج، من خلال الاستشراق، الشرق نفسه، في المجالات السياسة والاجتماعية-الاقتصادية، وصولا إلى الميادين العسكرية والعلمية والثقافية والروحية. وبهذا، كشف إدوارد سعيد الخطاب الغربي عن الشرق، ووصف الاستشراق بأنه أداة استعمار، حتى أصبح كتاب “الاستشراق” الوثيقة التأسيسية لاتجاه خاص في الدراسات الثقافية، هي دراسات ما بعد الاستعمار (ما بعد الكولونيالية). إن الجوهري في مقولات إدوارد سعيد هو أن الاستشراق، في المعنى الذي مُورس فعلا، كان أداة معرفية للإمبراطوريات الاستعمارية (ويسميها الإمبريالية) الممثلة في السلطات الاستعمارية القديمة والحديثة والمعاصرة الحاكمة، وأشكال الاستعمار المباشر وغير المباشر التي وظّفتها.

ومن المهم تماما تأكيد رفض سعيد مبدئيا لهذا التقسيم الثقافي والجغرافي “المتخيَّل” كما يصفه بين شرق وغرب. فالإنسانية كل واحد، وما هذه التقسيمات إلاّ أداة إضافية مُدانة. فالقضية ليست فقط علاقة الغرب بالشرق، بل علاقة البشر بالبشر. يقول إدوارد سعيد: “لقد أثار (كتاب) الاستشراق حين صدر في صيغته الأصلية الإنجليزية عام 1978، قدرا لافتا من الاهتمام في العالمين؛ العربي والإسلامي، إضافة إلى اهتمام القراء والدارسين المتخصصين بالشرق الأوسط. وفي عام 1981 صدر الاستشراق في ترجمة عربية لافتة قام بها الدكتور كمال أبو ديب، ليعزز مقام هذا الكتاب بوصفه إما دفاعا عن الإسلام أو هجوما مقذعا عنيفا ضد الغرب، وكلا الأمرين لا يمت بصلة إلى ما كنت قد أنتويته أصلا من تأليف الكتاب”. فسعيد هنا لا يريد لعمله الفكريّ أن يُجيّر بصيغة لم يقصدها أصلا، وهو في البُعد الإنساني، لا يميّز بين الناس استنادا إلى معتقد أو عرق أو لون أو جنس، فالإنسان هو الإنسان. إنه ببساطة يرفض الظلم والهيمنة، كائنا من كان الظالم أو المهيمن، وبهذا الفهم تحديدا يجب أن يُقرأ إدوارد سعيد. هو يبيّن العدالة الراسخة للقضية الفلسطينية، ثم ينطلق في الدفاع عنها، وهكذا فعل مع القضايا العربية أو الإسلامية أو المشرقية أو العالمية عموما، وربما كان في هذا ما يفسّر البُعد العالمي والإنساني الواسع لأعماله الفكرية، ومواقفه السياسية، وهو في ذلك، قدم في الممارسة الكثير. فقد وقف مع الراحل ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية في مرحلة، ولكنه غادر واستقال من المجلس الوطني الفلسطيني حينما رأى أن المسار السياسي لم يعد مقبولا لديه. ومع ذلك، لم تنقطع الصلات، فبقي له من الاحترام في حياته وبعد وفاته، ما يستحقّ مثله من عمالقة الفكر.

وفيما يخص المنطقة العربية، فإن الصراعات السائدة فيها تدخل في إطار الصراعات التي انتقدها سعيد بشدة، حين هاجم دون مهادنة أطروحات صاموئيل هنتنغتون في “صدام الحضارات”، بل إن سعيد تحدث عن “صدام الجهالات” (The clash of ignorance)، قاصدا بذلك، حينها، جهالة جورج بوش الابن، وجهالة أسامة بن لادن. والسياق يدعو إلى الإشارة “لعدو” لدود لإدوارد سعيد، وهو بيرنارد لويس، الذي يُعدّ واحداً من أهم المستشرقين في العالم الأنجلو-ساكسوني، ومن أبرز الذين قدموا خدماتهم للكولونيالية البريطانية والأميركية، وهو يهودي صهيوني متعصب، صاحب تأثير كبير على تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، ومعروف بتحامله على العرب والمسلمين. وصموئيل هنتنغتون صاحب كتاب “صراع الحضارات” هو تلميذ لويس، وفرنسيس فوكوياما، صاحب كتاب “نهاية التاريخ وخاتم البشر” هو تلميذ هنتنغتون. وكثيرا ما يُشار إلى أن أعمال إدوارد سعيد الفكرية هشّمت برنارد لويس وتلامذته وحجّمتها إلى حدّ بعيد، وهذا إنجاز فكريّ وسياسيّ كبير.

يصعب في الواقع الحديث عن مفكر كبير في مقالة… ويصعب أكثر، إلى حدّ تأنيب الضمير، عدم الإشارة إلى عناوين من مآثر إدوارد سعيد… ولكن الأصعب هو أن تمرّ ذكرى وفاته، دون أن يُقال شيء بمناسبتها… وكما قِيل: حارب إدوارد سعيد الجهل بقوة لا تقلّ عن دفاعه عن العلم والحقيقة، وهذا في ذاته عمل بطولي، يستحق أن يُذكَر صانعه وأن يُقرأ وأن تُفرد له في جامعاتنا مساقات..

قيل للروائي السوداني المعروف، الطيب صالح، بعد مرور أقل من عام على رحيل إدوارد سعيد: إن إدوارد سعيد أسطورة جميلة، … فرد الطيب على الفور: وستزداد الأسطورة جمالاً مع الأيام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى