هل تريد الحقيقة؟ .. أو شيء جميل؟ / غيث الغياثين

هل تريد الحقيقة؟ .. أو شيء جميل؟

في بداياتي المتواضعة –والتي لا تزال كذلك- مع التدوين الإلكتروني على الإنترنت وبداية إنتقالي من عالم التدوين الورقي -على الدفاتر والقصاصات وهوامش الكتب وظهر علب المحارم “المناديل الورقية”-، في تلك البدايات أعترف بأنني قد كنت خيالياً بعض الشيء “دون كيشوتّياً” -إن صح التوصيف- ، كنت أفترض أنني وبمجرد نشري للتدوينة سيتهافت ليقرأها العشرات إن لم يكونوا المئات فتنهال بعدها التعليقات المؤيد منها والمعارض و…. ذلك لم يحدث مطلقاً بالمناسبة، فقد كنت أنا القارئ البائس والوحيد لما أدوّن في معظم الوقت – على الأقل في بادئ الأمر- ، لكنني كنت أفترض ذلك العدد الهائل من القرّاء ربما من فرط التفاؤل أو من فرط السذاجة ..لست أدري؟ ، فكنت أقف طويلاً لدرجة الملل في مرحلة إختيار موضوع التدوينة لإرضاء تلك الجماهير الغفيرة، فأمضي جل وقتي أبحث عن الإقتباسات اللطيفة والجمل المستساغة والأفكار البسيطة القريبة إلى القلب، كانت هذه المرحلة في الغالب تُخمد حماستي في الكتابة فإما أن أنسحب خائب الأمل مستسلماً وإما أن أستمر في الكتابة بتصنّع وركاكة مصيرها في النهاية الحذف تماماً من جهازي بل وإنكاري “لنسبها” .. وكم كنت رحيماً بالبشرية لفعلي ذلك وإنقاذ أذواقهم من المسوخ التي كتبت ..
لكن .. كان يحالفني الحظ أحياناً بالكتابة عن موضوع ما أحسبه لطيفاً وهادفاً دونما تصنع أو “رص” للجمل وأجدني منه وفيه متمكناً من أفكاري ضابطاً لإيقاعها ومسترسلاً في تعبيراتها بصدق وسلاسة، ودون التقيد بفكرة إرضاء الجمهور وحسب -والتي تجعلني غاضّاً النظر عن مدى تصديقي وإيماني لمجمل ما في المحتوى المكتوب ما دام أنه مرغوب-، ورغم كل ذلك لم أكن أجد ردود أفعال أو تعليقات بالقبول أو الرفض، وأعتقد أن السبب في ذلك أنني لم أحسن الترويج للمدونة في ذلك الوقت.
تلك الفكرة –كتابة ما يرغب الجمهور بقرأته- أعاقتني كثيراَ في بادئ الأمر، لكنني في إحدى المرات قررت أن أتجاوزها ،وذلك عندما قرأت خبراً في إحدى الصحف المحلية عن إرتفاع نسب الجريمة في الأردن إستفزني أنه مر مرور الكرام ولم يتحدث الكثيرون عنه فكتبت تدوينة موضوعية وتحليلية من وجهة نظر شخصية تحت عنوان “التطور المرعب للجريمة في الأردن كماً ونوعاً” تكلمت في التدوينة من وجهة نظر شخصية عن أسباب إرتفاع معدل الجريمة وتعدد أشكالها وكيف أن هنالك أنواع وأساليب إقتحمت الأراضي الأردنية لم نكن نسمع عنها أو نشاهدها إلا في دول أجنبية أخرى كالسطو المسلح وقطع الطرق بحيل ومكائد مخيفة وأن ذلك ربما يعود لأسباب كإزدياد البطالة وإرتفاع معدلات الفقر وإزدياد التعداد السكاني لأسباب متعددة –ونحن بلد مضياف ولا داعي للتوضيح أكثر كي لا تبدو منة منا على أحد-.. ربما أكون قد أصبت في شي وأخطأت في أشياء لكنني لم أكن متجنياً بقدر ما كنت أتحدث من منطلق الغيرة على الوطن راغباً في أن أراه كما عدناه أرضاً للكرم والطيبة والمحبة والبساطة، نشرت التدوينة وبعدها تفاجأت بكم مرعب من التعليقات الهجومية على شخصي، كان الجميع يرى أنني أبالغ في أرقام الإحصائيات التي كنت قد أدرجتها في متن التدوينة، لكنهم صدموا عندما وضعت رابط الخبر من الصحيفة الرسمية وبه تلك الأرقام والتي هي في الأصل صادرة عن إدارة البحث الجنائي بشكل رسمي ومعلن ولم أكن أنا من نضمها في ليل .. إعتذر لي البعض عن الشتائم والبعض إنسحب بهدوء .. لاحقاً قمت بحذف التدوينة كي لا يُستفز منها آخرون حتى برغم أنها بنيت على معلومات وأرقام رسمية ولكن الحقيقة أحياناً أخر ما يريد (البعض) أن يراه .. فهم يرغبون برؤية الجمال وإن كان مصطنعاً ومزيفاً ..
بعد ذلك الموقف وغيره و بعد تراكمات أخرى زادت من تنوّري وإدراكي للأمور .. توصلت للإقتناع بأنني ما دمت صادقاً فيما أكتب عندما يتعلق الأمر بحقائق فلا يهمني رأي أحد أو رضا أحد ولكنني قد أحتجب عن نشرها آسفاً تجنباً لأي إشكالات ولأنني لا أمتلك رصيداً كافياً لدى الناس يؤهلني للحديث عن بعض تلك الحقائق ، و بأنني من الممكن أن أنشد رضا الناس فيما دون الحقائق من أحاديث ولطائف وطرائف وخيال وذاتيات وخواطر وغيرها ..
وفي الختام أجدني مؤتمن بأن أنقل إقتباس عن مصطى صادق المنفلوطي قراءته، وراق لي وأظنه قد يفيد البعض من أمثالي من المبتدئين في الكتابة والتدوين كما أفادني ..
“سئل مصطفى لطفي المنفلوطي كيف يكتب، فقال:
ولقد كان من أكبر ما أعانني على أمري في كتابة تلك الكلمات أشياء أربعة سأذكرها لعل المتأدب يجد في شيء منها ما ينتفع به في أدبه:
أولها: أني كنت أحدث الناس بقلمي كما أحدثهم بلساني، فإذا جلست إلى منضدتي خُيّلَ إلي أن بين يدي رجلاً من عامة الناس مقبلاً عليَّ بوجهه، وإن من ألذ الأشياء وأشهاها إلى نفسي أن لا أترك صغيراً ولا كبيراً مما يجول بخاطري حتى أفضي به إليه.
ثانيها: أني ما كنت أحمل نفسي على الكتابة حملاً، ولا أجلس إلى منضدتي مفكراً: ماذا أكتب اليوم، وأي الموضوعات أعجب وأغرب، وألذ وأشوق، وأيها أعلق بالقلوب، بل كنت أرى فأفكر فأكتب فأنشر ما أكتب فأرضي الناس مرة وأسخطهم أخرى من حيث لا أتعمد سخطهم ولا أتطلب رضاهم.
ثالثها: أني ما كنت أكتب حقيقة غير مشوبة بخيال، ولا خيالاً غير مرتكز على حقيقة، لأني كنت أعلم أن الحقيقة مجردة عن الخيال لا تأخذ من نفس السامع مأخذاً، ولا تترك في قلبه أثراً.
رابعها: أني ما كنت أكتب للناس لأعجبهم، بل لأنفعهم، ولا لأسمع منهم: أنت أحسنت، بل لأجد في نفوسهم أثراً مما كتبت.”

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى