السجون الأردنية / 2 …. منصور ضيف الله

السجون الأردنية / 2

سجن ماركا محطتي الأولى ، الغرف تمتلئ بالمساجين ، من مختلف الأعمار والمناطق ، نسيتهم الدنيا ، وانخرطوا في دنيا أخرى ، حيث ينقلب النهار ليلا ، وتغدو الحياة مجرد مشروع صغير ، خسارته لا تعني شيئا ، وربحه ورقة يا نصيب . في السرير العلوي ثمة بدوي ، في لحظة صار قاتلا ، والآن يمستطر الرحمة ، في ليالي الصيف الخانقة . من الضروري ان يكيف السجين عملياته البيولوجية ، ومشاعره ، وأفكاره حسب الغرفة ذي الثلاثين مترا مربعا . أن يخلق عالما بزوايا لم تذكرها العلوم ، وتاريخا نسيه الناريخ .

عند الثالثة صباحا يخبرني أبو رامي احتمالية نقلي الى سجن آخر ، ربما معان أو العقبة ……. أو الكرك ، نظام جديد تستخدمه إدارات السجون لأسباب عدة . وأبو رامي يحمل الماستر في علم النفس من لندن . هادئ إلى درجة السخرية ، يوزع يومه حسب ثواني الساعة المركونة قريبا منه . يأتي أحدهم ليبدأ دعوة دينية للإيمان !! يطلق سيلا من أحاديث نبوية جديدة ! بلغة عربية مائلة ، يعتدل أبو رامي ، يبدأ معه خبيثا ، ويستدرجه إلى مناطق عملية متخصصة ، ينكشف الحوار ، ويتدحرج ، لنكتشف أن الداعي مجرد عامل بسطة قريبا من سينما ريفولي ، عند أحد قباضايات سقف السيل ، وعامل تنظيفات في ملاحم سوق الخضرة ، وان توقيفه قضائي بسبب دعوى أقامتها أمرأة بالتحرش . يفتح أبو رامي علبة L m أحمر ، يرش على الجميع ، ويضحك ، ثم يدندن بإغنية عن ميدان الطرف الأغر!!

بواكير الصباح الماركي تشق قضبان النافذة العلوية اليتيمة ، تغادرنا دقائق إلى زمن آخر ، والمأمور يعلن أسماء من سيغادرون إلى سجن الكرك . أوضب نفسي ، أتشبث بكيس بلاستيكي ، وأنسل من بوابة الغرفة المكتومة المكتظة إلى نقطة التجمع . شباب كثير ، صامتون ، حزينون . جميعهم ” عتقاء ” قرار إداري سريع : المحافظ أو المتصرف ، قولا واحدا ، ويبقى القضاء صامتا إلى حين . المخدرات مشكلة الأغلب ، تعاط ، أو حيازة ، أو إتجار . مجرد صغار ، أما الرؤوس الكبيرة فتغيب . المخدرات تستفحل ، ولا بد من حل .

مقالات ذات صلة

من بعيد ألمح ….. ، كان معدله في الثانوية الفرع العلمي يتجاوز ال 96 . لسبب ما بلعه الإدمان ، تاهت خطاويه ، نحف جسمه ، غابت أسنانه ، مات بريق عينيه ، كل شيء فيه تغير ، صار قديما ، جافا ، مواتا ، إلا لمحته الذكية الوامضة . سألته عن شقيقته الكبرى ، وأخبرني انها طبيبة في تخصص نادر ، تمارس مهنتها في قلب لندن . منحته سيجارة هي كل أمله في الدنيا ، وغاب جسده الأربعيني النحيل بين الأجساد المتراصة الناطرة …….

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى