المفتاح و…فرن الكركون / م . باهر يعيش

المفتاح و…فرن الكركون
(يدكّر)يذكّر المؤذّن بتسبيحات ربّانيّة حنونة قبل أن يحين وقت أذان الفجر من على مأذنة المسجد القريب(جامع الخضر) يبدأ أبو كامل بالنهوض من فرشته المتوسّدة أرض الغرفة(أصبحنا وأصبح الملك لله).تصبّ أم كامل الماء على يديه للوضوء من طاسة نحاسيّة تغرف بها من الزير المجاور.هو جاوزالسّتين مربوع القامة ممتلئ الجسد يرتدي شروالا أسود فوقه ثوب قمباز(سرّطيّة)بيضاء مقلّمة شمّرعن طرفيها ودسّهما في الحزام القماشي حول خصره, يعتمر طاقية سوداء من صوف على مقاس الرّاس.يلتقي مع أبنه أبي سليم في فسحة البيت الخشّة(الخرجة).سيران نحو الحوش الى الطريق المبلّط بالحجر السّلطاني من رحم عيبال.أبو سليم رجل على أعتاب الأربعين بكر والديه,زوّجوه في السابعة عشرة وله سبعة أولاد وبنات.له الكثير من صفات أبيه خلقا وخلقا.يؤدّيا صّلاة الفجر حاضرة,يتوجّها الى مخبزهما القريب،فرن(الكركون)مبنى حجري قديم من أيام العثمانيين خارج أسوار البلدة القديمة بمحاذات بوّابتها الغربيّة.كان يستعمل مركزا أمنيّا(كركونا)نقطة جندرمة سجن صغير.زال بانيه كما زال غيره وسيزول… وبقيت التّسمية.
يرفع أبو كامل طوقًا يحيط بعنقه يحمل مفتاح باب الفرن,هكذا شأنهم هناك أهالي الدّيار عليهم سلام،يحتفظون بمفاتيح بيوتهم وحوانيتهم قريبة من القلب وما زالوا.يبسمل,يولج المفتاح الحديدي الأسود العملاق في سكّرة الباب الحديدي الكبير ,يديره بكامل كفّه يسارا مرة وأثنتين وسبعة حتى ينسحب اللسان من مبيته.يفتح أبو سليم درف الباب يطويها ويركزها مفتتحا نهاره ب(يافتّاح ياعليم يا رّزاق يا كريم) قارءًا المعوّذتين من شرّ الناس والخنّاس.يبدأ يأدخال أكوام النّتش المكدّسة على ساحة الفرن بعد أن يطمئنّ بأن الكميّة التي أحضرها الحَمّارهي بالعدد المتّفق عليه.يقوم أبو كامل بتجهيز(بيت النّار) والذي بيّت فيه بعض من دقّ جفت الزيتون الساخن للأحتفاظ ببعض من حرارته أختصارا للوقت والوقود قبل أن تهلّ أولى الزبائن.
تدخل الستّ امّ العبد بغطوتها(غطاء الرّأس)والمنديل الاسود منسدل عل وجهها تحمل صينية نحاسيّة حمّلتها معلاقين جهّزتهما للشوي لأبنها وعروسه ليلة الصّباحيّة,سويّة مع عجين طحين قمح حقول نابلس جنين ومرج أبن عامر,سهول مأدبا أربد والكرك على(طبليّة)يحملها فتى صغيرعلى(كعكة)من قماش تتوسّد رأسه.الأرغفة الطازجة مع صحبة من قليل من زعتر الجبل وزيته وزيتونه وفلق من الجبن النابلسي…زينة الموائد,ستكون زادا لبعل وأربعة شباب حجّارين ينحتون الصّخر في محاجر في باطن عيبال وجرزيم,جبلا نابلس الجميلة الأبيّة وجبالنا أينما تكن.لا تنسى أمّ العبد أن تشوّن كمية من الطحين في ركن طبليتها لمنع ألتصاق العجين بأرضيّة البسطة حين ينهال عليها أبو كامل بسطا بكفيّىن سميكين تطرحان جملًا.
تمتلئ قاعة الفرن بالزّبائن وأرضيّة بيت النّار بالأرغفة تتنفّس تنتفخ يحمرّ وجهها.غلام يمسك أطراف طبليّته بكلتي يديه يسير كالتمثال بين الأزقّة,لا يستطيع أن يقاوم شوط حجر صغير بصبّاته.فتاة صغيرة أمّ الجدايل تنقّبت في الثانية عشرة,تمسك طبليتها بيديها بعد أن تعلّمت فنّ العجن والتّقريص.تسير بمحاذاة حبلة سور بستان قصر البيك,تضع طبليتها على السنسال الحجري,تقطف وردة جوريّة بلون الدّم الفائر في عروقها,تخطف فلّة بيضاء حلمت بفارس يرشقها بها و… تمضي.يرقّ أبو كامل أقراص العجين ويوردها أبو سليم بيت النار ليخرجها خبزا شهيا تفوح منه رائحة الوطن.يقذف أبو سليم الأرغفة في طبالي الزّبائن اللذين يتولون ترتيبها بعد أن يستقطع رغيفين(أجورالخبيز).
بعد سنين قليلة يحين موعد رحيل أبي كامل.يتجمّعون حوله يتناول قلادة مفتاح الفرن يضعها حول عنق أبنه البكر كامل (أبي سليم) ليحمل الرّاية من بعده أمانة شأنّ الرّبع هناك منذ آدم وما زالوا!!الآن أحفادنا أحفاد أبي كامل(أينما كانوا) يعملون في مخابز آلية بلا روح ولا كف أنسان.قمحنا ليس من سهولنا نتشنا تسيّل مازوتا من أقاصي الأرض,خميرتنا تتكلّم كلّ اللغات عدا العربيّة لكن,يبقى عبق رائحة خبزنا من قمحنا وكفّ أبي كامل السّميكة الحنون عليه مع رائحة نتشنا في فرن الكركون,هي الأجمل والأطيب والدافع لهم هناك ولنا هنا..ألى هناك,نحو سنبلة قمح وحبّة زيتون و(فلقة)جبنة.سقا الله تلك الأيام,ولاعزاء..لقمح الجلب!
mbyaish@gmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى