الطب بين الانسانية واللاإنسانية / صهيب الحلايقة

الطب بين الانسانية واللاإنسانية

اثناء دراستي للطب كنت سعيدا جدا في المرحلة الانتقالية من السنوات النظرية المُملة الي التطبيق العملي في المُستشفى ، نعم أخيراً سأكون طبيباً مُصغراً و سأرتدي ربطة العُنق يومياً وأُلمِعُ حذائي جيداً صباح كل يومٍ قبل الخروج ، اخيراً سأترك جُمود الكتب و الصور و الفيديوهات القديمة ، لانتقل بين أروقةِ و ممراتِ المستشفى أتعامل مع مريض حقيقي ، أُطبق ما درسته في السنوات الماضية ، أُشاطِر المريض هُمومه سائلاً عن عِلته و أفحصه و أتشاورُ مع زملائي في مرضه و شكواه .
واليوم فإني سأمتلك من الجرأة المُبكرة للحديث عن مسألة طالما دافعتُ عنها واعتبرتها من المُسلماتِ في الطب وهي انسانية هذه المهنة . ها أنا الان في السنة الثالثة من مرحلة الاختصاص الطبي في مركز طبي عام ويتبادرُ في ذهني سؤالٌ يحمل في حساسيته ما قد يكفي لتنهال علي الاتهامات بعدم الرحمة و القسوة والخروج من المِلة الطبية ! لكنني وبصراحة أجدُ نفسي وفي ظل ظروف العمل والتي قد تكون مشابهة تماماً لمعظم أقطارنا العربية و خدماتها الصحية هذه الظروف التي ابعدتنا عن انسانية رسالة قُضيَ من عُمرنا وسنقضي ما تبقى منه في حيثياتها وهمومها .
تلك الظروف التي ناقضت كل ما لقني اياه ” دكتور ماجد” في اول محاضرة عن التطبيق العملي السريري وكيفية اخذ التاريخ المرضي من المريض وفحصه ، ما زلت اذكره تماماً يوصينا بإستقبال المريض من باب غُرفة العيادة و الجلوس مقابله لا خلف المكاتب … ما زلت اذكر عن منعه لنا من وضع قدم فوق الاخرى أمام المريض … ما زلت اذكر أن كُتُبَنا و مَراجعنا الطبية تضع الخط الاسود العريض على جملة ” لا تقاطع المريض، وكن مستمعا جيداً له” واعطاء المريض حقه بالوقت والذي يترواح – في بريطانيا – لما يقارب الاثنتي عشرة دقيقة لكل مريض مُراجع و الثلاثون دقيقة لكل مريض جديد او بمشكلة جديدة !
لا شك أن كل ما سبق نتفق عليه ،إلا أننا وللأسف أصبحنا نعمل في بيئة طبية لا صحية في ظل ضغط كبير على القطاعات الصحية الحكومية و العامة من الكم الهائل لإعداد المرضى والمراجعين و من نقص الكادر الطبي المساعد و محدودية الاجهزة و الادوات .
أصبحت أتعامل مع المرضى كالارقام … “المريض رقم عشرة لم يدخل”! … “المريض رقم سبعة غائب”!…”تبقى عشرون مريضاً و و قت العيادة قارب على الانتهاء” !… يدخل المريض وأتسارع مع عقارب الساعة أو الدقائق في لقاءه لاعطاءه ما قد يحتاج ، أتظاهر في السعادة وارسم ابتسامة كسرها مُراجع تعالت شتائمه لاتنظاره الوقت الطويل ! … أحاول أن اكون مستمعاً جيداً لكن الوقت يداهمني! وعيون المرضى المتراكمين على ابواب العيادة تخترق خصوصية مريض خرج من الخامسة صباحاً ليحجز دوراً مبكراً في عيادتي ! كل ذلك وأكثر يجعلنا لا نشارك المريض شعوره و يزيد الفجوة المتباعدة بيننا و بينه رغم جُلوسنا بالقرب منه!
الطب مهنة انسانية … وبلا شك فإن الطبيب بحاجة لظروف انسانية ليقدم الانسانية لمريضه ، فحق المريض في الوقت مغتصب ، وخصوصيته مخترقة ، وفحصه قد يكون ناقصاً لتعطل جهاز أو عدم توفره ، وعلاجه سيتأخر لانتظاره اجراء صورة اشعاعية بعد سبعة شهور … أو عمر طويل !
إن المنظومة الصحية في الدول العربية بحاجة لمراجعة شاملة فالخاسر الاكبر هو المريض و المتضرر ايضاً هو الطبيب … الخلاصة اردت أن اقول “نحن بحاجة لظروف انسانية لنعمل بإنسانية” .
د.صهيب حلايقة
ملاحظة : حسب لجنة اطباء الصحة الاردنية فان عشرة ملايين ونصف مريض تم معالجته في عام 2015 فقط في المستشفيات الحكومية

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى