” يحيى” أصغر شاعر عربي يغزل من البراءة روايةً عابرة للأزمنة

سواليف _

“أنا الولد العادي …لا أخشى شيئاً”
يتحدث الشاعر والمترجم، عبد الرحيم يوسف، عن ابنه يحيى الذي كتب شعرا تحت العنوان أعلاه في جلسة على المقهى. لم أصدق كيف يمكن لطفل في الخامسة من عمره أن يصيغ سبكاً محكماً في هذه السن، خاصة وأنها بالفصحى. أسأل عبد الرحيم ليقول إنه متأثر بمشاهدة قنوات الأطفال المدبلجة، ويحب أن يحاكي ما يسمعه.

يحيى يكتب الشعر دون أن يعي ماهية الشعر أو أن يكون معنيا به بالأساس، هو “يعبِّر” عن نفسه عبر كلمات وجمل، نحن “الكبار” رأيناها شعراً.

بعد هذه الجلسة بسنوات ربما، كان من حسن الحظ قراءة الكتاب الممتع “ليس كل الأحلام قصائد” من ترجمة الشاعر والصحافي العراقي عبد الرحمن الماجدي؛ وهو ترجمة لسبعين “قصيدة” من كتاب عنوانه “أحلام” صدر عن مؤسسة “اليوم العالمي من أجل الأطفال والشعر” في هولندا المدعومة من “اليونيسيف”. يحكي الماجدي قصة الكتاب في مقدمته، يقول “وللكتاب قصة.. إذ طلبت تلك المؤسسة من الأطفال من سن السادسة حتى سن الثانية عشرة كتابة قصائد من أحلامهم وإرسالها للمؤسسة عبر المدارس أو المكتبات العامة أو الأهل ليتم عرضها على لجنة تحكيم مكونة من أدباء ونقاد ومربين قرأوا القصائد بإمعان وجد.. نحو عشرة آلاف قصيدة اختاروا منها 150 قصيدة طبعت جميعا في كتاب خاص يحتوي على القصائد الفائزة بالجوائز الثلاث لكل فئة عمرية مع القصائد الأخرى المنوه عنها من قبل لجنة التحكيم”.

التفاعل مع “أحلام” الأطفال، قصائدهم الباكرة الطازجة، بمفهوم أوليّ تماما عن الشعر – دون الخوض في خلافاته المنهجية التي نعيش معتركها حتى الآن- لهي تجربة “مفاجئة” بالفعل. الخيال في سلطانه الكامل، لم يحدد بعدُ بعقلانية ما، أو يُقمع – دون قصد غالبا- بأولويات معرفية، كما يراها “الكبار”.

كان ألبرت آينشتاين كلما سئل عن “عبقريته” يجيب ساخرا “إنه لم يفقد دهشة الطفولة”. ربما يكون في إجابته هذه مدخل إلى فهم كيف يمكن لأطفال في عمر يتراوح بين الرابعة والعاشرة أن ينتجوا نصوصا بهذا الإحكام. “الخيال أهم من المعرفة، لأن المعرفة والمعلومات يمكن لأي أحد أن يصل إليها لكن الخيال يوظف هذه المعرفة للوصول إلى الحقيقة” يقول آينشتاين، ويمكن في هذا الموضع أن نضع “الجمال” بدلا من “الحقيقة”، الجمال القادر على “تطويع” المخيلة عبر كلمات وجمل شديدة البساطة، غير أنها تحمل في كثافتها زخما تأويليا، يذكرنا بالدهشة التي تتفلت منا – الكبار- ونحاول اقتناصها في الكتابة والفن.

قدرة على التجريد

“حلمتُ

بأني غيمةٌ

وكانت الريح تهب

حينها رنّ المنبهُ

وطيّرت الريحُ حلمي”.

هذه قصيدة كتبها طفل هولندي، بمستويي وعي، وقدرة على التجريد الشعري، كيف ذاب الفاصل بين الحلم والواقع فيها، أو لعله في بداية “تعرفه” على الواقع الذي “طيَّر” حلمه، حلمه الغيمة، إحالة المرئي والملموس إلى طاقة تجريدية، كما يقول علماء نفس الأطفال أن هذا العمر (ثماني سنوات) هو خواتيم مرحلة التجريد..

وآخر يحيل ذاته إلى مطر:

“لو كنت أنا المطر

لرششت الناس بي

بلل لذيذ!

هممم ….

لو كنت أنا المطر

لصنعت مسبحا

للجميع

بلل لذيذ!

هممم….

لو كنت أنا المطر

لتوقفت الآن”.

وفيما أتلذذ بتصفح الكتاب.. انتبهت، يحيى عبد الرحيم يوسف! “الطفل العادي الذي لا يخشى شيئا”.

تجربة “ليس كل الأحلام قصائد” ذكرتني بالطاقة الشعرية الكامنة لدى الطفل المتمرد. لعل الفارق بين التجربة الهولندية والتجربة المصرية الفردية هو المؤسسة. في هولندا جندت المؤسسات إمكاناتها للتعاطي مع الأطفال كذوات مبدعة، قادرة على الإدهاش. آلاف الأسر والمدارس أقامت جسرا إبداعيا بينها وبين أطفالها، فكانت النتيجة “كتاب الأحلام”. فماذا لو أعيدت التجربة في مصر؟ حتى وإن كانت بمجهود فردي، بطموح ورغبة في “اكتشاف” رامبو جديد، مصري، قادر على إضافة جديد إلى القماشة الشعرية التي تعاني من التكرار وإعادة تدوير الخيال والمعاني. لم أقابل يحيى إلا مرة واحدة، أدهشني بثرائه واعتداده بنفسه وقدرته المذهلة على إخضاع العالم كله إلى خياله ومنطقه الخاص، والمسافة التي يعطيها الأب الشاعر للطفل المدهش للإبداع والاختلاف، دون قمع طموحه الملول المنطلق. لم يسعفني الوقت مع يحيى بأكثر من المراقبة والاستمتاع، وتذكر ما كناه وما صرناه.

قصائد الطفل يحيى عبد الرحيم يوسف

لاحقا سألت عبد الرحيم: هل يحيى ما زال يكتب؟ قال لي: نعم، ولديه عدد من القصائد. ثم أرسل لي بعض “كتاباته” على الورق، قبل أن ينصرف تماما إلى الحاسب الآلي والكتابة عليه، مع وصية خاصة من الطفل إلي عبر أبيه “هو حريص على ألوان سطوره الشعرية”. ضحكتُ وقلت سأحاول قدر المستطاع أن أحافظ عليها.

قصائد يحيى التالية لم تكن أقل إدهاشا من القصائد الهولندية، أو قصيدته هو الباكرة، بل إن لديه علاقة شديدة الخصوصية باللغة الفصيحة، بعيدا عن ثنائيات الفصحى/العامية وجدالها العبثي منذ قرن تقريبا، كما لو أن في نصوصه هذه ردا عمليا على مدعي “غرابة الفصحى” وصعوبتها، خاصة وأن هذا الطفل تلقاها عبر مسلسلات الرسوم المتحركة، لا عبر “كُتاب” أو تلقين سمج، أي بدأت علاقته باللغة باللعب والخيال، قناة الاتصال الممكنة مع الطفل. ورغم -أيضا- أن والده شاعر عامية، لكن علاقته باللغة بدأت صحية أكثر من الكتب التي تثقل أكتاف الأطفال وعقولهم بإصرار على الحفظ ولا شيء غيره. ورغم أن الفصحى لغة حيوية و”منطقية” مثل عملية حسابية يمكن “فهمها” والتعاطي مع جمالياتها -لكن هذه حكاية أخرى.

الشاعر يحيى عبد الرحيم “أهداني” قصائده بوصية ألا أنسى ذكر اسمه، وهذه بعضها “بترتيب أسطرها وعناوينها كما كتبها”:

في أحد الأيام عندما كان لدي 3 سنوات

في بيتي القديم في

العجمي،

في وجه المطبخ وراء

ستارة صفراء شعرت أن حياتي

بدأت!

“معنديش كلام تاني bye bye”

__

(النظارة الجديدة)

بالنظارة الجديدة جاءت لي نظرة

فريدة، نظرة جديدة، نظرة

غريبة، نظرة، أوضح.

__

(ليلة في البوابين)

أقول: المتعة سبب الحياة

والملل سبب الموت

وأبي عبد الرحيم يحتاج سدادة أذن، ولكن في فمه

أين المقلاة؟ أريد أن أقلي البيضة التي تسمى رأس علي العدوي

أين كيس الملاكمة؟ أريد أن أصبح قويــّـــاً؟

تجربة مع أطفال آخرين

تجربة يحيى عبد الرحيم حمستني لتكرارها، هذه المرة مع أطفال ربما لا تعني لهم الكتابة شيئا وفي أسر غير مهتمة بالأدب. قلتُ سأبدأ بأطفال من دائرتي الأقرب. لم تكن مهمة سهلة في بدايتها، الأطفال سريعو الضجر، ولا تعنيهم “ألعاب الكبار” حتى لقاء جمعني بـ”يزيد”، طفل في الصف الأول الابتدائي عمره سبع سنوات، هو ابن أحد الجيران، سوري من عائلة هربت من سورية في بدايات الثورة، وسكنت في القاهرة. يزيد يحب الثرثرة، لكن والده يعاقبه كثيرا على “كذبه”. كان مدخلي إليه حبه للرسوم المتحركة أيضا ومجلة “ميكي”، بعد حوار قصير معه، أعطاني رقمه لأحادثه عبر الواتس آب: لم يكن يرغب في الكتابة في بداية الأمر، مكتفيا بالرسائل الصوتية، لكني بعد أسبوعين من الإصغاء إلى ثرثراته، اقترحت عليه أن يكتب أحلامه كما في الكتاب الهولندي، بدأ يكتب بدارجة خليطة من المصرية والشامية، بدأت في “الضغط” عليه ليكتب، فتوقفت رسائله إلي. ثم لجأت إلى استراتيجية جديدة، وهي أن أحكي له حكايات مقابل أن “يحاول”. وبعد أسابيع مضنية انتهى إلى هذه القصيدة “دون تعديل مني”:

لماذا لا نربي الثعابين

مع أنها جميلة الشكل واللون

ويمكن أن نحملها في شنطتنا

بابا يقول إن عمو سالم ناعم متل الثعبان

مثل بطانيتي، يعني هو حلو

السم سهل نخرجه منه

هذا عذر أهبل جدا

بعد يزيد، كررت التجربة مع كل أطفال ألقاهم، مع أبناء الأصدقاء، أبناء العائلة. لم تثمر محاولاتي في معظمها، حتى كان حوار مع “حبيبة” ابنة حارس البناية التي أسكن فيها، عن المدرسة و”الشقاوة”. هي في الصف الثالث الابتدائي، على وشك إكمال العاشرة، يقول عنها والداها إنها “بليدة” لا تحب المذاكرة. فوجئتُ أيضا بخيالها المنطلق، رغم كسلها في الكتابة، طلبتُ منها أن تكتب لي، لكنها أصرت علي أن أكتب ما تقوله:

أريد يكون عندي

كل يوم فستان وجزمة جديدة

وأن أستيقظ من النوم

شعري مُسَرّح لوحده

ولا يضربني بابا

الأحلام والأمنيات شيء واحد عند الأطفال. حبيبة أصرت على أن تنظر إلى الهاتف المحمول لترى كيف كتبت “وراءها” ما قالته، و”ناقشتني” في صحة إملاء ما كتبت
أخيرا “محمود”، ابن عشرة أعوام، طفل يشبه هؤلاء الذين توثقهم الصور الفوتوغرافية للأطفال العاملين في مصر، شقاؤه باد على ملامحه، صموت، منطوٍ ولا يتكلم كثيرا مع الناس، يعمل محمود في محل “كي الملابس” لتسع ساعات يوميا، يذهب إلى إحدى المدارس الحكومية دون أن يتعلم شيئا، ما زال يتعثر في القراءة والكتابة، هو مشغول بالعمل للمساهمة في الإنفاق على نفسه في بيت لا أب فيه وأم تحاول أن تعمل. حدثته كثيرا عن الشعر والكتابة والحكايات، بدا كأنه يستمع إلى عالم غريب ومثير، وذات يوم قال لي بصوت خجول:

كنت عاوز أطير

علشان أشوف بابا عند ربنا

وأجيبه معايا

بس يا رب ما يبقاش تقيل

ويقع مني ويروح لربنا تاني!

أدهشتني هذه الطاقة الكامنة، قلت له سأكتب ما قاله، تحمس كثيرا، بعد كتابته تعثر في قراءته، كأن المسافة بين خياله وقراءته مليئة بالملابس المجعدة والواقع البشع الذي شوهه باكرا.

**

هل يمكن تكرار التجربة الهولندية في مصر؟ تجربتي الشخصية على محدوديتها تقول الكثير، ربما لو أن هناك مؤسسة ترعى مواهب الأطفال بالفعل، لا هذه المشغولة بالصور الرسمية مع المسؤولين، يمكن أن تنتج نصوصا لا تقل إدهاشا، في سياق يعاني فيه كلّ الأطفال داخل منظومة تعليمية سقيمة.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى