الحسبان يكتب : الغرب إذ يطيح بالدولة وسلطتها ليفسح الطريق أمام المقاومات أو الميليشيات

الغرب إذ يطيح بالدولة وسلطتها ليفسح الطريق أمام #المقاومات أو #الميليشيات.
د.#عبدالحكيم #الحسبان
 
تقول التقارير الإخبارية القادمة من لبنان، كما الصور والفيديوهات التي توثق لمسارات الأمور في هذه البلد، أننا بتنا أمام لحظة سقوط الدولة اللبنانية، وإعلان وفاتها الرسمي وبالضربة القاضية. ففي السياسة كما الأمن كما الاقتصاد، باتت الدولة وأذرعها هي اللاعب الأضعف على الساحة اللبنانية, وتقول بعض الأنباء الواردة من هناك، إن بعض عناصر الجيش والأمن باتوا غير قادرين على الالتحاق بوحداتهم بسبب عدم توافر الوقود وارتفاع أسعاره. وفي مقابل هذا الضعف للدولة اللبنانية بهياكلها ومؤسساتها، تبدو المقاومة اللبنانية و”حزب الله” تحديدا تسجل حضورا غير مسبوق بعد أن راكم الحزب سلاحا نوعيا وكميا كما تفيد كل التقارير الدولية. ففي لبنان تموت الدولة لتزدهر المقاومة.
وفي العراق لا يبدو المشهد مختلفا كثيرا، فالدولة العراقية المركزية في بغداد التي ينت قوة وسطوة غير مسبوقة بدءا من سنوات الاستقلال وصولا الى سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، بات عليها أن تدير علاقة مع بنى غير دولتية تنافسها السيادة والقرار، لتجد نفسها في البداية في مواجهة داعش مسجلة عجزا معيبا أمام جحافل “الخليفة” البغدادي بعد أن قام الحاكم الأمريكي بول بريمر بحل الجيش العراقي، فكان أن ظهر الحشد الشعبي العراقي ليواجه داعش بعد أن عجزت هياكل الدولة عن مواجهته. في العراق أيضا وكما في لبنان، تضعف الدولة وهياكلها ليحل مكانها الحشد الشعبي وقبله البشمركة الكردية.
وفي اليمن، كان هناك المسار ذاته. فثمة مجتمع يتسم بغالبه بطابع عشائري طور جهاز دولة ونما جهاز الدولة هذا عبر عقود وسجلت الدولة حضورا عبر المستشفيات والجامعات  التي بنتها، والشوارع التي عبدتها، والوظائف التي خلقتها، وبعد عقود من مسار بناء الدولة، تجد الدولة اليوم نفسها وهي تنازع في مواجهة هياكل منافسة لها، فبات الناس يسمعون بلفظة الحوثيين، اكثر من سماعهم بمفردة الدولة اليمنية التي بات رئيسها يقيم أصلا خارج العاصمة صنعاء بل وخارج اليمن كله. في اليمن تموت الدولة ليزدهر الحوثيين، سمهم ما شئت، حركة مقاومة أم مليشيا.
وفي فلسطين، أثمر نضال الشعب الفلسطيني والتضحيات الجسام التي قدمها هذا الشعب العظيم، مسارا سياسيا تسوويا، كان من نتائجه ظهور السلطة الفلسطينية في تسعينيات القرن الماضي، رأى البعض فيها نواة للدولة الفلسطينية القادمة, وبعد عقود قليلة من نشوء السلطة الفلسطينية تبدو السلطة الفلسطينية في أوهن حالاتها، وهي تصارع من أجل البقاء، وباتت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وهي الجسم المناقض والمعادي للسلطة وهياكلها هي الطرف الذي يملك الشرعية الوطنية، والطرف الذي يسجل الانتصار تلوا الانتصار على الأرض، في حين تبدو السلطة الفلسطينية في رام الله في أوهن حالاتها.
وفي الاردن يبدو المسار في خطوطه العامة مشابها، وإن اختلفت تفاصيل المشهد نتيجة خصوصية الموقع الجيوسياسي الاردني. ففي الاردن نشأ جهاز دولة بدءا من سنوات العشرينيات، ونجح جهاز الدولة وأذرعه في التغلغل إلى معظم مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية للأردنيين. وبعد عقود طويلة من النجاح للدولة وأذرعها، بدا فيه وكأن الدولة تصنع نموذجا واعدا في نقل الناس من مجتمع اللادولة إلى مجتمع الدولة، بدأ مسار معاكس في تسعينيات القرن الماضي، لتجد الدولة الأردنية نفسها اليوم، أمام امتحانات يومية لهيبتها وسلطتها، يقوم بها الخارج وبعض الداخل على السواء.
وفي سوريا، وبعد عقود طويلة تلت استقلال الدولة السورية، تشكل جهاز دولة قوي في الداخل كما على مستوى الإقليم. وبعد عقود من مراكمة الدولة السورية لعناصر قوتها، بدا مسار الإطاحة بالدولة السورية وإضعافها، لتصبح معركة الدولة السورية ألان هي استعادة أجزاء من أرضها باتت نهبا لقوى النهب الدولي وميليشياتها المحلية في الداخل التي تنافس الدولة وتقوض من سلطتها على الأرض والموارد. تقول أرقام معهد فيريل الالماني إن أكثر من 300 ألف جهادي تم جلبهم من الخارج، ليدمروا كل المؤسسات التي بنتها الدولة السورية على مدى عقود. وليعترف وزير الخارجية القطري الاسبق أن ما تم إنفاقه من مال العرب على هؤلاء الجهاديين وصل الى 150مليارا من الدولارات.
في مصر وتونس وليبيا والجزائر والسودان جرت مسارات مشابهة، وان كانت التفاصيل الصغيرة تختلف أحيانا، كما كانت النتائج متباينة. فالمسار الذي تعيشه المنطقة ومنذ تسعينيات القرن الماضي هي مسارات تفكيك الدول واضعافها على أمل تقديم تنازلات كبرى منها فيما يتعلق بالمصالح الغربية عموما والمصالح الإسرائيلية استطرادا.
ثمة تصنيف أنجزته في تسعينيات القرن الماضي مراكز الأبحاث والدراسات الغربية للمجتمعات والدولة في العالم العربي، وهي خلصت إلى تصنيف يشتمل على ثلاث فئات؛ ففي الشرق الأوسط هناك بلدان الدولة والمجتمع فيهما صديقان للغرب والولايات المتحدة، مثل دول الخليج، وهناك بلدان الدولة فيها صديقة للغرب ولكن المجتمع معادي للولايات المتحدة وإسرائيل مثل الأردن ومصر والمغرب، وهناك بلدان الدولة والمجتمع فيهما معاديان على السواء للولايات المتحدة واسرائيل، مثل العراق وسوريا والجزائر وليبيا.
 
في لبنان الذي حصل على استقلاله نهاية أربعينيات القرن الماضي، لم يظهر حزب الله إلا في في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وفي سياق تاريخي محدد، وهو سياق الفعل العدواني الاستعماري الصهيوني الذي يستجلب رد فعل وطني شرعي. فإسرائيل التي كانت تمارس كل يوم سياسة إضعاف وإنهاك الدولة اللبنانية مستبيحة أرضها وسمائها وبحرها، مسجلة آلاف الاعتداءات  بحق السيادة اللبنانية، وناهبة للموارد المائية اللبنايية ومدمرة لعشرات الطائرات المدنية الجاثمة على ارض مطار بيروت، ومكرسة لمقولة “قوة لبنان في ضعفه”، ومتندرة بان  “إسرائيل وكي تحتل لبنان لا تحتاج لاي فرقة عسكرية بل تحتاج إلى فرقة موسيقية”.
في العام 1982 بلغت الاستباحة الصهيونية للدولة اللبنانية ذروتها وبمباركة امريكية وبتواطؤ غربي، ليحتل الجيش الصهيوني نصف مساحة لبنان ويحاصر ويذل واحدة من أجمل عواصم العرب وأعزها. في كل هذه التطورات كانت الدولة اللبنانية عاجزة بل غائبة. غياب الدولة هو الذي دفع المجتمع ليخلق المقاومة في وجه الصهيوني. فكانت المقاومة في لبنان في بدايتها وطنية وحيث الشيوعيون والقوميون والقوميون السوريون والبعثيون هم من قادوا العمل المقاوم. وفي العام 1983 ولد حزب الله، ولم يكن بحوزة الحزب لحظة ولادته أكثر من ثلاث بنادق. مارس حزب الله فعل المقاومة والتحرير على مدى عقود، ودفع آلاف الشهداء من بيئته، وأوقع في المحتل الإسرائيلي الاف الإصابات ليجبره على الانسحاب الكامل وبدون أي اتفاق سياسي مذل. والنتيجة، ان قوة حزب الله وشرعيته المحلية والعربية تضاعفت.
في لبنان الذي يبدو وكأننا نعيش المشاهد الأخيرة لسقوط دولته ومؤسساتها، مقابل أكثر من 150 الف صاروخ للمقاومة اللبنانية التي تبدو في أفضل حالاتها، لم يضيع الأمريكيون لحظة واحدة بغية إضعاف الدولة اللبنانية، ولم تنقطع الفرق الأمريكية لحظة واحدة عن العمل مع حاكم مصرف لبنان بغية تجفيف المصادر المالية للدولة اللبنانية تحت ذريعة معاقبة سوريا وحزب الله. فكانت النتيجة أن سقطت الدولة، وبات حزب الله في أفضل حالاته.
وفي فلسطين مارست إسرائيل والولايات المتحدة، كل الضغوط الاقتصادية والسياسية على السلطة الفلسطينية وأجهزتها لتظهر في قمة ضعفها خدماتيا أمام مواطنيها، وفي قمة ضعفها سياسيا أمام سياسات الاستيطان وأمام الاعتداءات الصهيونية على الناس والمقدسات، فكان كل إضعاف لسلطة عباس، يمثل رصيدا مضافا لسلطة حماس في غزة بل وفي الداخل الفلسطيني كله. وبدلا من إنعاش السلطة الفلسطينية في رام الله ليجري التفاوض معها على حل مشرف للقضية الفلسطينية، مارس الغرب الإذلال والخنق والعصر السياسي والوطني لسلطة رام الله، لينتعش تهريب الصواريخ بداية لحماس، ثم لتقوم ورش الحدادة في عزة بتصنيع الصواريخ. وبعد عقود من رفض الاعتراف بحماس يبدو الغرب الآن مضطرا للجلوس مع حماس، بعد أن باتت سلطة رام الله منبوذة في أعين معظم الشعب الفلسطيني.
وفي الأردن، مارس الإسرائيليون ومنذ تسعينيات القرن الماضي متلظين خلف أسماء أمريكية من قبيل ديفيد شينكر كل سياسات الخنق والإضعاف للدولة الأردنية ومؤسساتها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا مع الحرص الشديد على أن لا تمس سياسات الخنق والإنهاك التي يمارسونها الأذرع الأمنية والعسكرية للدولة الأردنية.  فبالنظر للموقع الجيوسياسي المتميز جدا للأردن في خريطة المنطقة المعاصرة، فان المعادلة الغربية التي تحكم السياسات الغربية واستطرادا الإسرائيلية تجاه الأردن تقوم على أن المطلوب خنق المجتمع والدولة وخلق بيئة اجتماعية معادية للدولة والنظام في الأردن، ولكن من المهم تقوية البنية العسكرية والأمنية للدولة. وعليه ففي الحالة الأردنية، تقتضي المصلحة الغربية والإسرائيلية وجود مجتمع ودولة منهكين اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، ولكن هذا الإنهاك لا ينبغي أن يصل للمؤسسات العسكرية والأمنية.
في فلسطين ولبنان والعراق والأردن وسوريا، كان هناك مسار واحد ونسق واحد من السياسات الغربية الذي يقوم على “عصر الدولة” وإنهاكها اقتصاديا بالعقوبات الاقتصادية ليفسح الطريق لهياكل منافسة بطبيعتها للدولة كي تظهر وتنتعش، كما حدث في تسعينيات القرن الماضي مع العراق الذي تم خنق دولته بعقوبات اقتصادية غربية غير مسبوقة، وكما يحصل حاليا مع سوريا بقانون قيصر الذي يستهدف اقتصاديات الأردن ولبنان والعراق بنفس القدر الذي يستهدف فيه الاقتصاد السوري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى