التنوير والظلامية

التنوير والظلامية
د. هاشم غرايبه

تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي مقطعا للمذيع الأمريكي “جو سكاربورو” يقول فيه إن القناصة كانوا سيطلقون الرصاص على مقتحمي مبنى الكونغرس لو كانوا من المسلمين أو السود.
لم يصدم أحد بمنظر الرعاع الأمريكيين وهم يهاجمون مبنى الكونغرس بتحريض من رئيسها الآفل نجمه، فهذه المشاهد المعتادة في دول العالم الثالث فقط، ليست بسبب التقدم والتخلف، بل بسبب فساد المجتمعات الموجه من الإعلام والسلطة، خدمة أصحاب الاحتكارات الكبرى.
الذين اعتادوا وصم المسلمين بالتخلف، والغربيين بالتقدم، خرست ألسنتهم وبهتوا، فلم يعلق أحدهم على هذه الحادثة، فقد سقطت كل حججهم التي كانوا يسوقونها، فقد انكشف زيف ادعائهم الحرص على تنوير مجتمعاتنا وانقاذنا من ظلامية الفكر الإسلامي.
الشخص المتنور هو المثقف المنفتح المهتم بالمعرفة، لكن مسمى التنويريين لدينا يطلق على نفر من المثقفين الذين يضمرون العداء لمنهج الأمة ويسعون الى تهميشه وإلغائه إن أمكن، وعداؤهم هذا جاء تعصبا ضد الإسلام حسدا من عند أنفسهم، وقويت عزيمتهم عندما انضم لهم نفر مسلمون إسميا، لكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم إما جهلا أو مكابرة أوغرورا بثقافتهم المجزوءة.
ربما جاءت هذه التسمية كرد فعل على اعتبار اتباع المنهج الإلهي هداية، والهداية لا يمكن إلا أن تكون على نور ووضوح، لذلك جاء ادعاء التنوير لوصم المهتدين بالظلامية، تماما مثلما يعتبر هؤلاء وأسيادهم أن الجهاد لتحرير الأرض من المحتل الغاصب هو إرهاب، أي قلب المدلولات والمفاهيم الى عكسها.
لو بحثنا عن جذور هذه الحركة التنويرية سنجد أنها كانت موازية زمنيا لظهور جمعية الإتحاد والترقي التركية في أواخر القرن التاسع عشر، بعد زمن طويل انكشف ممولو هذه الحركة وتبين أنهم من يهود الدونمة ، أما المنظرون لها فكانوا من تلاميذ المخابرات البريطانية.
عربيا كانت الحركة مموهة برداء القومية العربية، ولما كان الإستقلال عن تركيا مطلبا جماهيريا واسعا، فلم يكن أحد ليجرؤ على التشكيك بنوايا هؤلاء الذين يدعون الى نهضة العرب وتحررهم من (الإستعمار) التركي… لكنهم في حقيقة الأمر كانوا يدعون الى الإنتقال الى حضن الغرب بذريعة أنهم ديمقراطيون متحررون ، وقد جادل الأمير فيصل الإستقلاليين السوريين وهو ذاهب الى “سان ريمو”، رافضا تحذيرهم بأن المؤتمر سيكون على حساب العرب، قائلا ان بريطانيا دولة عطوفة على العرب وتريد مصلحتهم وتقدمهم.
كان التقدم والرقي البريطاني مقارنة بحال العرب آنذاك حجة دامغة في نظر المأخوذين بها على المشككين بجدوى التبعية لها، بل كان مجرد تنازل موظف صغير في وزارة المستعمرات البريطانية بالتحدث مع أية شخصية سياسية أو ثقافية عربية شرفا كبيرا يتباهى به، فيهرول الى تنفيذ (نصائحهم) بامتثال وحماس، ويتهم مخالفية بالتخلف والظلامية.
إذن هكذا بدأت حركة التنوير، يسقط المثقف في فخ الشعور بالدونية عند مقارنة الأوضاع عندنا وعندهم، فيصبح أداة طيعة، بل ويتبرع لـ (النضال) من أجل نشر مبادئهم لدينا ، معتقدا أن سبب تقدمهم العلمانية المدعاة، وسبب تخلفنا ليس أوضاعنا الإجتماعية الإقتصادية المهلهلة، وإنما معتقدنا الديني، ، بل ويندفع الى الإيمان بأن مجرد التخلص من الإسلام ستكون الطريق سالكة الى التقدم والإزدهار.
المبشرون بهذه الحركة كانوا أكثر ذكاء من أتباعهم، فلم يجابهوا الدين مباشرة، بل التفوا على ذلك بالدعوة الى الفكر القومي كبديل، لذلك لن ندهش إذا ما اكتشفنا أن نواة من سموا أنفسهم بالمفكرين القوميين ترعرعوا في الجامعة الأمريكية في بيروت التي تأسست عام 1866 على يد المبشر البروتستانتي “دانيال بلس”، وكانت لا تخفي أهدافها التبشيرية الواضحة، والمدهش أكثر أن بعض خريجي هذه الجامعة كانوا قوام الحركة السياسية العربية، ومنهم تقريبا كان أغلب الرؤساء والوزراء.
حاليا، وبعد الهجمة التنويرية التي شنتها مؤسسة راند التابعة للمخابرات الأمريكية بنشر واسع لمنظمات ( NGO) في المنطقة العربية تحت شعارات حماية الأطفال وتمكين المرأة والدفاع عن الصحافيين، فقد وظفت عددا كبيرا ممن دربتهم وأشربتهم المباديء الليبرالية الغربية، وتأمل أنها ستحقق تحولا تدريجيا في المجتمعات المسلمة لإلحاقها بالثقافة الغربية طمعا بالتقدم.
لذا فالرهان معقود الآن على الوعي لأبعاد وخطورة هذه الحملة التبشيرية الجديدة لمباديء الليبرالية الجديدة تحت العنوان القديم ذاته ..التنوير.
الحملات التبشيرية الأولى كانت متخفية بالمؤسسات التعليمية والصحية، أما الجديدة فهي من خلال الادعاء الزائف بحماية حقوق الإنسان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى