التاريخ معلم

التاريخ معلم
د. هاشم غرايبه

احتفل شعب البوسنة بذكرى دخولهم الإسلام قبل 510 سنوات قبل أيام، في مهرجان ضخم استمر لأيام، ويعتبرونه أهم المناسبات الوطنية ويسمونه “مهرجان إيواز دادا” نسبة الى الشخص الأناضولي الذي جاء الى البلاد وانتشر الإسلام على يده.
لذلك عندما فتح محمد الفاتح منطقة البلقان، لم ينشر الإسلام بالقوة كما يدعي الغربيون، بل انتشر بالقناعة عن طريق الدعاة والعلاقات التجارية، فمن أسلم مثل الألبان والبوسنيين والهرسك، بقي على إسلامه الى اليوم، ومن رفض مثل الصرب والكروات والبلغار واليونان بقي على دينه.
بالموازاة مع ذلك تصادف بالأمس حدثان لهما علاقة، الأول إعلان تركيا إعادة فتح مسجد “أيا صوفيا” لعبادة الله بعد أن تم تحويله الى متحف علماني على يد أتاتورك قبل 86 عاما، والحدث الآخر ذكرى مرور ربع قرن على مذبحة “سربرنيتشا” التي تم فيها اعدام 8000 رجل وفتى، ذنبهم الوحيد أنهم مسلمون.
الأحداث الثلاث متباينة زمنيا، لكن سنتبين أنها مترابطة من حيث المغزى.
العداء الأوروبي تجاه الإسلام، ليس عن جهل به، كباقي الأمم التي لم تعرفه، بل هو مبدئي، ويجب علينا كأمة أن نعي ذلك ولا ننخدع بالحديث المضلل عن أن الغرب علماني لا يهتم بالدين، وأن العيب في ضعفنا مما يجعلنا نتخيل المؤامرة.
السؤال الهام: لماذا لا يكون المسلمون هم المتعصبون ويسعون الى محو ديانة الغربيين؟.
يكمن الجواب في أن الدين الإسلامي يعترف بأن عقيدة النصارى إلهية صحيحة، ويعتبر ذلك من أساسيات الإيمان، لذلك لا يحاربها، وقد بين القرآن الكريم أن الله بعث المسيح عليه السلام الى اليهود تحديدا برسالة إصلاحية، ولم يكلفه بنشرها لكل البشر، لذلك عرضها على اليهود المؤمنين بالله، ولم يعرضها على الرومان الكافرين، وأرادها الله رسالة رحمة وتصالح لتهذيب نفوس القاسية قلوبهم فغدت كالحجارة أو أشد قسوة.
وعندما تقبلها الأوروبيون كديانة غيروا اسمها الى المسيحية، لتتوافق مع عقيدة التثليث الشركية، ولتخالف العقائد التوحيدية القديمة، فيكون تعدد الألهية متوافقا مع عقيدة الأوروبيون القديمة في تعدد الآلهة.
لذلك فالعداء ليس بين النصرانية والإسلام، وقد حدد الله تعالى ذلك بشكل قاطع: “لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ” [المائدة:82].
لذلك وطوال التاريخ، ظلت حروب الغرب ضد المسلمين وقودها التعصب، ومحركها الأطماع.
العقيدة المبنية على التعصب تنتج الكراهية والحقد، والعقيدة المبنية على توحيد الله وتقواه تثمر التسامح والعفو، هذه حقيقة أثبتتها وقائع التاريخ، لذلك رأينا الأوروبيين الصليبيين عندما احتلوا بيت المقدس، فاضت شوارعها بالدماء، وعندما استعادها المسلمون أمنوا حتى المقاتلين على دمائهم وسمحوا لهم بالجلاء بكامل ممتلكاتهم.
وعندما فتح المسلمون الأندلس تركوا الناس أحرارا في اختيار عقيدتهم، ولم يقتلوا غير من قاتلهم ويغتصبوا امرأة واحدة أو يهدموا كنيسة، ولما استعادها الإسبان قتلوا كل من كان مسلما، ولم يبقوا مسجدا واحداً.
وبعد سقوط الدولة العثمانية احتل الأوروبيون المناطق المسلمة من أوروبا، ووضعت البوسنة والهرسك تحت حكم النمسا، مورست الضغوط المعيشية على السكان ليتركوا الإسلام، فلم تنجح، ثم تناوب الشيوعيون والصرب على قمعهم وفشلوا أيضا، وعندما سقط الإتحاد السوفياتي، سُمح لكل القوميات بالإستقلال ما عدا الأمم المسلمة في وسط آسيا وشرق أوروبا، فقمعت حركاتهم التحررية بقسوة، ولتبرير ذلك سموا إنفصاليين فيما لم يحتج المسيحيون الى نضال فقد منحوا الإستقلال الكامل، أما دول البلقان المسلمة فقد قسمت أراضيها بين الجمهوريات المسيحية (الصرب والكروات والمقدونيين)، وعندما تمردوا تركوهم تحت رحمة المتعصبين الذين قاموا بأبشع المجازر بتواطؤ من القوات الدولية، واكتفت العدالة الدولية باتهام شخصين فقط، ولم يتم محاكمة أي ممن مارسوا الإغتصاب والذبح بحق عشرات الآلاف من المسلمين.
كل ذلك التاريخ الدموي، تناساه المنافقون المعاصرون من أبناء جلدتنا، ولم نسمع منهم أية نأمة، لكنهم تعالت أصواتهم لانتقاد القرار التركي باستعادة أيا صوفيا، وتصحيح واحدة من خطايا العلمانيين العديدة.
“أيا صوفيا” لم يحولها محمد الفاتح من كنيسة الى مسجد، بل اشتراها كموقع مهدم ممن يملكونها بعقد شراء صحيح ومثبت، وتبرع بها وقفا للمسلمين.
واستعادتها ليس لنقص في المساجد، ولكنها وقفة عزة وكرامة، ورمزاً لرفض انتهاك سيادة بلد إسلامي.
وما مسارعة العربان لاستنكار ذلك إلا لأنه يكشف عورتهم، في تنازلهم عن المسجد الأقصى، إذعانا واستكانة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى