دولة الإنسان / د. ناصر البزور

دولة الإنسان…

أثناء قيامي بواجبٍ اجتماعي حضره بعض الأقارب وغير الأقارب، رأيتُ في عيون ووجوه البعض كُرهاً وحقداً دفيناً لم أشهده طوال حياتي: وجوه مُسودّة وعيونٌ متناحرة حائرة وأنفاسٌ خائرةٌ ماكرة… 🙂 وبعدها بيومين وأثناء قيامي بواجبٍ اجتماعي آخر في مكانٍ غريب، رأيتُ مِن الاحترام والتقدير الكثير الكثير… عندها خالجتني بعض المشاعر والأفكار التي قد تُفسّر بعض الآفات التي نخَرَت بُنيان مجتمعاتنا “المُسلمة” 🙁
فبحسب التاريخ البشري المكتوب وغير المكتوب فقد حاول الإنسان منذ غابر العصور العيش في جماعات لتحقيق مصالح وجودية كتحصيل الغذاء من خلال الصيد في جماعات أو الزراعة في جماعات أو الدفاع عن النفس في جماعات… ومِن هُنا نشأت فكرة نشوء الدويلات والدول الإمبراطوريات على مدى الازمنة والدهور…
وقد اختلفت هذه الدول في أسس قيامها ومبادئها؛ فازدهرت بعضها واندثرت بعضها… ولكنّ القاسم المشترك بين جميع الدول والامبراطوريات العظيمة هو أنّها عظّمت الجوانب الإنسانية في قوانينها وسياساتها وتربيتها وقيمها على النقيض من الدول المارقة والدول الفاشلة…
ومنذ بزوغ فجر رسالة الإسلام قامت ملامح الدولة التي نمَت وتنامت وتمدّدت بشكلٍ يفوق الوصف حتّى بلغت في فكرها وحضارتها وجغرافيتها ما لم تبلغه دولةٌ قبلها عبر التاريخ… والقضية الجدلية بين أهل الفقه وأهل الفلسفة تبقى فيما كانت تلك الدولة دولة دينيةً أم دولة مدنية!!!
وفي الواقع ومن خلال استقراء النصوص الدينية والوقائع والأحداث فإنّ دولة الإسلام كانت “دولة الإنسان”؛ وبعيداً عن الجدليات البيزنطية والإسفافات الجدلية، يكفينا أن نعلم أنّ مقاصد الشريعة الكلية الخمسة هي في جوهرها ومخبرها ومظهرها ومحورها تهدف إلى تعظيم إنسانية الإنسان: صون الدين، وصون النفس، وصون العقل، وصون العِرض وصون المال…
فلمّا أكبرنا هذه المقاصد سُدنا العالمَ شرقاً وغرباً… ولمّا أهدرنا هذه المقاصد أُستعبَدَنا العالمُ برّاً وبحراً…
لقد أهدرنا معاني الاعتقاد وحرّيته فتشنّجنا وكفّرَ بعضنا الآخر…
فرّطنا بقيمة النفس فتقاتلنا وتحاربنا وذبّحَ بعضنا بعضاً…
أهملنا عقولنا فسمحنا للجهل بأن يُعشعش في تفاصيل حياتنا وللخرافات بأن تتحكّم في مصائرنا… وللجهلة أن يتحدّثوا بالنيابة عنّا…
أساء بعضنا لفهم صون العرض؛ فأفرطَ البعض وفرّط البعض فانتشر التنطّع بين مَن أفرطوا؛ وساد الخنا بين مَن فَرّطوا…
لم يحفظ الكثير منّا حُرمة المال؛ فأسرف المسرفون ونهبَ الناهبون، وسرق السارقون، وخان الخائنون…
بكلِّ هذا وذاك عمّت البلوى فتحاسدنا، وتناجشنا، وتباغضنا، وتجافينا، وتقاتلنا، وتحاربنا، وتذابحنا… حتّى استمرأنا كلَّ ذلك وأصبح الأخ لا يتمنّى الخير لأخيه، وابن العم يتمنّى زوال النعمة عن ابن عمّه، والجار ينتشي بمصيبة جاره، والصاحب يشمتُ بفشل صاحبه… وهذه أمورٌ لا تفعلها حتّى الحيوانات… فأصبحت المقولة الشعرية “وليس الذئب يأكلُ لحمَ ذئبٍ… ويأكلُ بعضنا بعضاً عياناً” واقعاً يومياً مُعاشاً!!!
دولة الإسلام يا سادة هي دولة الإنسان…هي دولة المحبّة…هي دولة الحقوق…هي دولة الإنتاج…هي دولة العدل…هي دولة العقل… وبغير ذلك تتحوّل الدولة إلى قُطعان أو هي أضلُّ سبيلاً… 🙁 والله أعلمُ وأحكم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى