البحث الأكاديمي بين سجون الماضي وحدائق الآخر

البحث الأكاديمي بين سجون الماضي وحدائق الآخر

أ. د. خليل الرفوع


      إنّ التجرد والموضوعية والعلميةَ وصولا إلى الاستقلال الفكري مفاهيم قد تبدو في أغلب الدراسات الإنسانية نظريةَ التصور عسيرة التطبيق ؛ لأن سطوة #الأيدلوجيا تستحوذ على التفكير والسلوك والبحث، والمشكل أن الشك وصولًا لليقين مرهق للباحث الذي يفتش عن المعرفة، لقد قرّ في الفكر المعتزلي :أن خمسين شكًّا خير من يقين واحد (بعيدا في رأيي عن اليقين العَقَدي) ،ولعل هذا كان مؤثرا في نتاجهم القولي الجدلي والبياني.
لقد أصبحت الهوامشُ على المقدس مقدسةً، وهذه معضلة #الباحث الموضوعي وليس المستقل، انظر إلى دراساتنا الإنسانية – مثلا – في اللسانيات أو في النقد الأدبي أو البلاغي أو أصول الدين  أو الفقه وأصوله أو التاريخ ، فهي تدور حول قدسية التراث ، وتعده موجِها لها وتصدر عنه خشية الملاحقة المجتمعية أو العقلية التراثية المهيمنة، وهو أصلا ضعف اجتهادي ووهن علمي ولمّا يُتَجاوَزْ في درسه أبجديات الكتابة الإملائية السليمة، وهي نمطية تتحكم في تشكيل الرؤية والتفكير والتخطيط، أي أننا نعيد نتاج أولئك القوم، ويعللون ذلك بقولهم المستلَب : هذا ما أجمع عليه آباؤنا وإنا على آثارهم سائرون، مع أن العقل المعاصر أكثر عقلانية وتحررا وتجردا أو هكذا ينبغي أن يكون؛ لذا ما يُطمَح إليه على الأقل هو إزاحة تلك السطوة وليس الاستقلال الفكري والسلوكي والوجداني ؛ فالحقيقة المطلقة ضرب من الوهم في مجتمع طوباوي مدجّن معرفيا ومؤطر أيدلوجيًّا ومستلب سياسيا، أما السبيل إلى كل ذلك فهو : الحرية المطلقة وهي في جوهرها غير متناقضة مع جوهر الأيدلوجيا وأقصد به المعتقد الذي أُثْقِل بزوائد وحواشٍ أكثرها متضاد مع أصله ويحسبها الكثيرون منه.
فمثلا حينما  يُستشهَد بقول الطبري في التفسير أو أبي حنيفة في الفقه أو سيبويه في النحو أو الأصمعي في المعنى اللغوي أو ابن الأثير في التأريخ أو ابن سلام الجمحي في النقد أو ابن منظور في المعنى اللغوي وضبط المفردة ، يتوارى رأي الباحث خلف أقوال هؤلاء وكأن أقوالهم التي قيلت في لحظة تاريخية خاصةٍ وحيٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا من تحته، وقد لجأ ثلة من الباحثين الشكلانيين إلى إحياء تراث مقبور يشبه إحياءَ الموتى من حيث  القيمة العلمية .
       وقريب من هذا كله نقل #النظريات الغربية في بعض العلوم كالتربية والاجتماع والفلسفة والقانون وغيرها من العلوم ، وهو نقل أخفق في التطبيق وبقي على رفوف المعرفة ينتظر دفنه وليس اجتراره في محاضرات مكرورة أو فيما يسمّى دراسات أكاديمية تراكم عليها غبار المكتبات المقفرة ، أي أننا بمعنى آخر أحيينا الميتَ وأمتنا الحيَّ، فلم نستفدْ منهما بل توارينا خلفهما من أجل ترقية أو شهرة أو وظيفة، ومعنى هذا كله أننا لم نبرح بعدُ – في دراساتنا الأكاديمية خاصةً – سجونَ الماضي عاكفينَ أو حدائقَ  الآخر مبهورين .
وانطلاقا من التجرد الموضوعي، أقول إن هناك دراسات نادرة تشبه نجومًا معدودة في جوّ السماء المظلمة تحتاج إلى قبس من نور يفتش عنها لكن المصابيح بلا زيت يوقد فتيلها .
وأسوأُ من هذا وذاك كتابة كُرّاسات (دوسيّات) غير محكّمة، وبيعها الطلبة دون موافقات رسمية، وأغلبها لا يستحق النظر في عناوينها أو تقليب صفحاتها ، أما وقد سُكِّرتِ الأبصار أمام بضاعة مزجاة منقولة فاسدة فإن وقف ذلك الفساد واجب، ومن هنا تبدأ إدارات الجامعات بالعمل إن أرادت الإصلاح قبل أن تبتعد عنهم الشُّقة ويطول الزمن.
أ. د. خليل الرفوع
أستاذ الأدب العربي في جامعة مؤتة

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى