اكاديميون في مستنقع السياسة / د . خالد غرايبة

اكاديميون في مستنقع السياسة
من اعظم التناقضات في مجتمعاتنا العربية وبالاخص في الاردن هو اشتغال الاكاديميين بالسياسة.
اتذكر انني سألت احد الاكاديميين الامريكان لماذا لا نجد في مجلسي النواب او الشيوخ الامريكيين احدا من الاكاديميين، فقال لي ان الاكاديمي في امريكا ليس بحاجة لامتهان السياسة فما يتوفر له من وضع اجتماعي او اقتصادي يكفي ليعطيه القناعة الذاتية اضافة الى شعوره بأن العمل بالسياسة هو نقيض التفكير العلمي الذي يقوم على الصدق والوضوح وعدم المهادنة او التنازل عن المبادئ فالسياسة بالعادة متروكة لفئة معينة من المجتمع غير فئة الاكاديميين كالمتقاعدين العسكريين او المحامين.

وهذا برأيي تحقيق لمقولة ابن خلدون:
“إن العلماء من بين البشر أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها لأنهم معتادون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية، والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج، وما يلحقها من الأحوال، ويتبعها من الآثار.”

في بلادنا، اصبحت الاكاديميا مهنة غير كافية لاشباع الحاجات النفسية للعاملين بها. فالاستاذ الجامعي مهما علا شأنه في العلم لا يجد من يكترث به او بعلمه في داخل مجتمعه الصغير او حتى مجتمعه الكبير اذا لم يكن في منصب اداري كعميد لكلية او رئيس لجامعة او مديرٍ عامٍ او وزيرٍ او نائبٍ برلماني.

ولذا، فقد اصبح الهم الاكبر للأستاذ الجامعي هو الحصول على الترقية ثم استلام المناصب داخل الجامعة ومن ثم الصعود الى الواجهة لتسلم مناصب سياسية عليا في سلك الدولة او الترشح لمجلس النواب بحيث يتمكن من الحصول على مختلف انواع المكاسب لا سيما المتعلقة بالوجاهة واحترام الاخرين له وخصوصا في البيئة العشائرية التي لا تعترف للشخص سوى بمقدرته على جلب المنافع لابناء العشيرة. ومن المثير للسخرية أننا نجد ذلك بشكل اكبر عند صغار الاكاديميين الذين من المفترض انهم يمتلكون عقليات متفتحة ترفض القيم السائدة للمجتمع من محسوبية ووصولية ويسعون الى تطوير انفسهم والحصول على الاعتراف بهم في مجتمع العلم وليس في مضافات عشائرهم.

مقالات ذات صلة

ونتيجة لذلك فقد اصبح العمل الاكاديمي والبحث العلمي ليس مقصودا لذاته وانما وسيلة للوصول بحيث يمكن للاستاذ الجامعي اتخاذ جميع الوسائل النظيفة وغير النظيفة للوصول الى هدفه المنشود وهو المنصب وما يتبعه من مكاسب. فتجد بعضهم لا يتورع عن اتخاذ الواسطة او استعمال النفاق او التزلف او ما تيسر له من وسائل الوصول، بحيث يرمى بعرض الحائط كل ما يحمل من القيم الاكاديمية التي اكتسبها اثناء تعليمه ويهوي الى مستوى القيم الاجتماعية السائدة والتي يحملها غيره ممن لم ينالو قدر علمه. هذا فضلا عن اهماله لوظيفته الاساسية وهي التعليم والبحث العلمي بحيث اصبحت آخر اولوياته، ويدلل على ذلك ما وصلت اليه جامعاتنا من انحدار في مستوى التعليم ومستوى البحث العلمي الذي لم يقدم للامة وللعالم انجازا يذكر من حيث نوعية الابحاث ومستواها وفائدتها للمجتمع والصناعة.

ولا يجب في نفس الوقت ان يُفهم من كل ذلك إنه من العيب أن يشتغل الاكاديميون في ادارة الدولة بل على العكس؛ فبعض الاكاديميين، وبالأخص الباحثين المتميزين منهم، اثبتوا جدارة عالية في ادارة المؤسسات واوصلوا بعضها الى نجاحات كبيرة بالرغم من ندرة الامثلة على ذلك. الا ان المسألة هي بالتحديد كيفية الوصول الى المنصب وكم التنازلات التي يقدمها الاكاديمي للوصول اليه. فبرأيي ان الاكاديمي الحق هو من يسعى المنصب اليه لا من يسعى الى المنصب، حالة قد تكون مثالية او غير واقعية في ثقافتنا السائدة.

على أن سعي الاكاديمي الى المنصب لا يُلام فيه وحده لأن الانسان مهما زاد علمه وزادت خبرته فأنه يبحث عن التقدير والاهتمام والاعتراف من قبل المجتمع. وحيث ان ميزان التقدير والمكانة الاجتماعية اصبح يحدده قيم الواسطة والمحسوبية والقيم العشائرية فأنه قد لا يكون من العدل ان يعاب على الاستاذ الجامعي الرغبة في الوصول. فربما لو توفر لذلك الاستاذ ما يلبي حاجاته النفسية بالاعتراف والاحترام المجتمعي وكذلك مستوى مناسبا من الدخل لما سعى الى المناصب ولا الى مكاسبها.

ولكن يبقى كل ذلك من باب الافتراضات التي لا نعلم مدى صحتها بدون التجربة الا ان الثابت هو ان المشكلة الاساسية هي ثقافة المجتمع التي تُسأل عنها الدولة والدولة فقط. فسياسة الدولة وانظمتها وتشريعاتها وتصرفاتها تجاه المجتمع ونخبه هي المسؤول الوحيد عن تشكيل قيم المجتمع وعن توجيهه ثقافيا؛ اما باتجاه المحسوبية والتراجع الاخلاقي والقيمي وإما باتجاه العدالة والرقي.

لن يتغير الحال الا بتغيير الثقافة ومنظومة القيم وهذه مسائل مرهونة بوعي الاجيال القادمة وقدرتها على انتاج نخب واعية وقادرة على القيادة.

ودمتم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى