التشدد الإسلامي / د . هاشم غرايبة

التشدد الإسلامي
ارتبط مفهوم التشدد يالإسلام ، فلا تسمع عبارة مسيحي متشدد أو قومي متشدد … أو حتى ملحد متشدد ! ، لماذا يا ترى ؟ .
لوعدنا إلى أصل المفهوم ، لوجدناه لغويا : يعني التصلب والتزمت والمبالغة ، وعكسه التخفيف والتسهيل ، أما اصطلاحا فهو التزمت والغلو بالإلتزام بالفكرة أو المعتقد ، إذن هو ليس مرتبطا بعقيدة محددة ، بل التصق بالإسلام حديثا ولأسباب متعددة ، أهمها فهم الأشخاص المتطرفين للدين الإسلامي ، بمعنى أن التطرف إن كان سمة فارقة للشخص فهو يصبغ فهمه للأشياء فيعطيها مفهومه ، فيظهر للمراقب وكأن التطرف سمة المعتقَد وليس المعتقِد .
وجدير بالذكر أن التطرف هو أخذ جانب قصي عن جوهر المعتقد ، وهو قد يكون أقصى اليمين أو أقصى الشمال ، أي متطرفا في تأييده لدرجة خروجه من نطاقه ، أو متطرفا في عدائه لدرجة خروجه من منطق رفضه.
وهكذا تلتقي مصطلحات التشدد والغلو و التطرف في منطقة واحدة ، لتقع كلها خارج منطوق المعتقد بدرجات متفاوتة ، بحسب البعد عن نقطة الوسط التي يتركز فيها مفهوم ذلك المعتقد .
لكن يبقى السؤال قائما : لماذا ارتبط كل ذلك بالإسلام حصرا رغم أنه ممكن في كل المعتقدات ؟
السبب الرئيس هو في الطبيعة البنيوية للإسلام ، فهو الوحيد الذي لا يعتبر مجرد معتقد فردي ، بل هو مشروع عالمي يستهدف تنظيم العلاقات بين البشر بينيا ، وبينهم وبين سائر الموجودات ، وبهدف إسعاد الناس وحل جميع مشكلاتهم ، إذن هو ليس مجرد فكرة جمالية ، أو يتوقف عند تفسير فلسفة الوجود من غير التدخل في حياة البشر ، ولما كان هكذا فسوف يصطدم بالعديد من المصالح الفردية ، ويتعارض مع كثير من الرغبات الشخصية ، ويحد من معظم النوازع الأنانية … ، من سيتقبله ويؤمن به هم العامة والمقهورين والمظلومين لأنه سينصفهم ، أما من سيرفضه فهم كل المتضررين جراء ذلك ، وبالطبع فلن يقفوا منه موقف اللا مبالاة ، ورغم أن هؤلاء ليسوا أغلبية إلا أنهم الأقوى والأقدر على التأثير فهم يمتلكون النفوذ والمال والسلطة والإعلام ، التي تستطيع قلب المفاهيم .
السبب الثاني أن الإسلام متاح دخوله لأي شخص ، ولا يحتاج إلى موافقة جهة مرجعية كاليهودية ، وليست له جهة قيادية هي المخولة بالتحدث بإسمه كالكاثوليكية ، لذلك فإن مجرد نطق الشخص بالشهادتين لا يحق لأحد تحديد موقعه ولا مستوى فهمه للإسلام ، بل يمكنه التفسير والإجتهاد وحتى الإفتاء إن استكمل متطلبات التحصيل العلمي الديني ، ولا شك أن ميزة الإنفتاح هذه التي يختص بها الإسلام لها أيضا مخاطر الفهم الخاطيء عند البعض أو المغرض عند البعض الآخر .
السبب الثالث هو ردة الفعل المعاكسة لدى من يحسون بشراسة الحرب التي يشُنُّها معادو الإسلام ، لتظهر بتطرف مضاد مساو له في المقدار ومعاكس في الإتجاه ، ولما كان هؤلاء المعادون يمتلكون وسائل الإعلام والإتصالات فهم يبرزون رد الفعل فقط ويخفون الفعل الذي قاد الى ذلك ، وعليه يظهر وكأن الدافع للتطرف هو طبيعة التشدد وأنها نابعة من منهج شرير .
كل ماذكرنا تفسير لنشوء التشدد وليس تبريرا له ، فالأصل أن الإسلام دين الرحمة واللين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولا يوجد نص شرعي واحد يدعو إلى إكراه الناس على اتباعه ، بل تجد عددا هائلا من النصوص ترفض التشدد والتطرف :
1 – أسلوب الدعوة محدد بقوله تعالى : ” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .. ” ( النحل : 125 ) ، وليس مطلوبا إجبار الناس على اعتناق الإسلام : ” لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .. ” ( البقرة: 272 ) .
2 – طبيعة المنهج الإعتدال ، فلا تشدد ولا تفريط وذاك معنى الوسطية الوارد في قوله تعالى : ” وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا .. ” ( البقرة : 143 ).
3 – ليس الغلو والتشدد من الدين في شيء ، وقد أظهر أسلوب التعامل اليومي للنبي الكريم ( ص ) هذه الميزة ، فما عرض عليه أمران إلا اختار أيسرهما ، وقال (ص) : ” إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم غلوهم في الدين ” ( الراوي : ابن عباس – صحيح ) ، كما قال ( ص ) ” إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه” ( صحيح البخاري : 39 ) .
4 – نهى الدين عن الزهد في الدنيا مثلما نهى عن التكالب المقيت عليها ، قال تعالى : ” وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ” ( الإسراء : 29 ) .
الخلاصة : يتبين لنا أن طبيعة الدين هي الإعتدال في كل شيء حتى في العبادة ، فالمبالغة في كل شيء تفسده كالحليب إن غليته قليلا حفظته ، لكن إن زاد ذلك عن حده أفسده ، لذلك فإن التشدد مفسد للدين ، وإن الفِرق والمذاهب التي أفرطت في ذلك اعتقادا أنه دلالة على عمق الإيمان ، لم تؤدي أفعالها إلا إلى الإضرار بالدين ، واستخدمها أعداؤه ذريعة للنيل منه ، منهج الدين كامل محدد في القرآن الكريم ، ومن زاد عليه كمن أنقص منه ، وجميع أصول الدين فسرتها السنة النبوية المطهرة ، ومن رغب عنها ، فليس من الحبيب المصطفى ( ص ) في شيء .

للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور هاشم غرايبه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ما شاء الله عليك دكتور اسأل الله ان يفتح عليك ويزيد الله في عطائك ويقربك الى قلوب متابعيك ويحفظك من مكر الحاسدين المبغضين لك ولمنشوراتك وكتاباتك . بوركت يا دكتور

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى