“أسير” / سامي السلوادي

“أسير”
بعد أن تم وضع العُصبة السوداء عُنوة على عينيه وتكميم فمه بعُصبة سوداء أُخرى وتشديد الوَثاق على يديه المُكبلتين ، بدأ مجموعة من الجنود “حفلة” التنكيل بجسده النحيل لحين وصول الجيب العسكري فبدأ الجندي الأول بركله على بطنه والجندي الثاني بلكمه عدة لكمات على وجهه، أما الجندي الآخر فقام بضربه برشاش الـ”العوزي” على مؤخرة رأسه ففقد الوعي!
كأنك تشاهد مجموعة من “الضباع” الجبانة قد أحاطت بـ “أسد جريح” على قناة ناشونال جيوغرافيك.
بعد ساعات فَتَحَ عينيه وقد أعياه التعب وأحاطت بجسده الآلام نظر حوله وهو مُلقى على أرض شديدة البرودة في مربيعينية الشتاء فلم يجد سوا أربعة جدران ونافذة صغيرة في أعلى الغرفة التي لم تتجاوز مساحتها متر ونصف المتر.
حاول جاهداً النهوض ، استجمع قواه وقال “يا رب” وعند قيامه دخل عليه “مأمور” السجن برفقة مجموعة من أصحاب البذل العسكرية والرسمية واصطحبوه معهم للغرفة المجاورة.
أجبروه على الجلوس على “كرسي أطفال” وثّقوا يديه مجدداً وقام أحدهم وقد بدى الغضب في عينيه بلكمه صارخاً في وجهه “أنت إرهابي”.
أتبع جندي التحقيق :
ستدفع ثمن كل قطرة دم سقطت من جسد الجنود الإسرائليين بسببك أيها العربي الحقير وإن لم تعترف عن بقية ” الإرهابيين” الذين ساعدوك سنأتي بزوجتك وأمك وأختك وسيتم إغتصابهن جميعاً أمام عيناك.
كان جوابه موجزاً لم يتعدى بضعة حروف لكن كانت تنبض فيهن الكبرياء والشجاعة والشموخ “ما في حدا معي ، أنا قتلت الكلاب لحالي”.
هذه الكلمات كانت كافية لدخول ” محمود” في دوامة التعذيب التي لم يتخيلها لوهلة واحدة في حياته ، كان الجو خارج غرفة التحقيق ماطراً بارداً جداً ، قاموا بتجريده من ملابسه وبدأوا بسكب المياه البارده على جسده المُكبل وقد تم تعليقه من يديه وهو ما يُعرف بـ “الشَبِح”.
كانوا يتناوبون على ضربه بالسوط والعصي إضافة للصعق بالكهرباء، وكان ” محمود” يردد آيات قرآنية حفظها وهو صغير عندما تربى في مسجد الحيّ في البلدة التي أذاقت المُر والذُل للجنود الصهاينة الذين إرتكبوا فيها عدة مجازر ظلت راسخة في مخيلة “محمود” حتى كبر.
“محمود” كان يقنط في بلدة جميلة في فلسطين وعند عودته من جامعته حيث كان يدرس تخصص الهندسة المعمارية التي وعد أباه قبل وفاته أن يدرسها .
وقد اعتاد أن يخلو بنفسه في ذلك الجبل ليناجي ربه ذهب يستكشف احدى المُغر التي كانت موجودة هناك ووجد بندقية عثمانية قديمة، لم يتمالك “محمود” نفسه من الفرحة فأخذ يسجد ويُكبِّر وبدأ يتدرب على تلك البندقية أياماً وأيام بعد أن استطاع أن يستعين بأحد أصدقائه لتأمين مجموعة من “الرصاصات”.
كان ذلك الجبل يمر من شارعه السفلي ” جيبات” إسرائيلية بالاضافة إلى تجول الجنود الصهاينة فيه بشكل يومي .
بعد ١٠٠ يوم من التدريب المتواصل قرر “محمود” انجاز مهمته ، كان يصادف يوم الإثنين رابع أيام شهر رمضان المُبارك جهز “محمود” البندقية انتظر مرور قطيع الجنود الجنود الذين أذاقوا بلدته الويلات ، وضع إصبعه على الزناد صوب فوهة البندقية على رأس أحدهم ، مر عليه شريط مأساة البلدة بالكامل كيف كانوا يهينون الشيوخ ويعتقلون الأطفال ويُعدمون الشُبان على مرأى أُمهاتهم، قال بسم الله، أُطلقت أولى رصاصات الإنتقام ، إستقرت في رأس ذلك المُغتصب وأردته قتيلاً ، لم يكتفي برأس واحد صوب البندقية إلى رأس ٤ جنود آخرين وألحقهم بصاحبهم إلى عذاب أليم .
خبأ “محمود” البندقية ، لَملَم أوراقه وكتبه وتوجه للمنزل كأن شيئاً لم يكن.
فتح “محمود” باب المنزل كان يرتجف فرحاً كأنه في حُلم جميل يتمنى أن لا يصحوا منه، رمى أوراقه وكتبه وألقى بجسده المُتعب إلى السرير ، كانت الفرحة تَتطاير من عينيه.
بعد دقائق معدودة اقتحم جيش الاحتلال البلدة بعد أن أغلقوا كافة المنافذ المؤدية لها ، قاموا بتفتيش المنازل ، واعتقلوا مجموعة كبيرة من شُبان البلدة، لحُسن حظ صديقنا “محمود” لم يكن إسمه معهم .
مرت الأيام والشهور ، قرر “محمود” العودة مجدداً لتفقد “البندقية” ، كان الجو بارداً ماطراً ، وعند وصوله لمشارف “المغارة” التي خبأ فيها بندقيته العُثمانية لَمحه أحد “مناديب” البلدة ، قرر “محمود” مغادرة المكان فوراً ، وبعد مرور أقل من “ساعة” قام جيش الاحتلال باقتحام البلدة ، وإعتقال صديقنا “محمود”.
ومن هنا بدأ مسلسل الألم والمُعاناة، معاناة الأسرى، معاناة من إختاروا عدم الرضوخ للذُل، إختاروا أن يحملوا على عاتقهم تحرير “الوطن”، الوطن الذي سُلب منهم وهم صغار، حرمهم المغتصب منه، قرروا أن يستعيدوه من أيادي المحتل، قرروا أن يخوضوا معركة التحرير.
اقتادوه من المنزل ، بعد أن كبلوا يديه وكمموا فمه، ودَّع بعينيه الجميلتين منزله، نظر قدر الإمكان حوله علَّه يُخبئ بلدته الجميلة في عينيه قبل أن يَعصِب المحتل السواد عليهما.
لم يكن صديقنا “محمود” ينتمي لأي حزب أو جماعة ، كان حزبه “الوطن” ، وجماعته “التحدي” ، وكلاهما له فاتورة باهضة الثمن.
بعد مرور ١٥ يوماً من “الشَبِح” والتعذيب اقتنع المحقق الإسرائيلي الذي كان يتحدث العرببة بطلاقة على الرغم من أصوله “الأوروبية” بأن صديقنا “محمود” لم يكن معه أي “إرهابي” في عملية قتل الجنود.
تم ترحيل صديقنا “محمود” الى المحكمة العسكرية الاسرائيلية ، جلس ‘محمود” مكبلاً وقد أحاطه مجموعة كبيرة من جنود الاحتلال.
وبعد أكثر ٢٠ جلسة ، اليوم سيصدر الحكم..
القاضي العسكري من أصول “كندية” ، المستشارين من أصول “بريطانية” ، والمدعي العام من أصول “أرجنتينية” ، أما بقية الجنود كانوا منقسمين بين أصول “أثيبوبية” و”درزية”، لم يكن في قاعة المحكمة مواطن سوى صديقنا “محمود”.
يااااه للألم ، يُحاكم الوطن في أرض الوطن من الغُرباء.
حصل صديقنا ” محمود” على ٥ مؤبدات دفعة واحدة .
من هذه اللحظة تحول اسم صديقنا “محمود” إلى “أسير”.
تم ترحيل صديقنا “محمود” الى سجن “عوفر” بدأت حياة جديدة غامضة مجهولة ، وعند دخوله الزنزانة والتي كانت تعُج بعشرات الأسرى عالرغم من مساحتها الضيقة جداً إلا أن صديقنا “محمود” لاقى أستقبالاً حافلاً من هؤلاء الأسرى، بدأوا بالسلام عليه ومواساته والشدّ من أزره، مشيدين في الوقت ذاته بشجاعته وأبدوا إعجابهم الشديد بما فعله من قتل للجنود مؤكدين له اعتزازهم به.
هنا اعتقد صديقنا “محمود” أنه قد حصل على أعلى حكم مؤبد في التاريخ!
لكن سرعان ما تبددت هذه الفكرة من رأسه عند سماعه عن الأسير “عبدالله البرغوثي” والأسير “إبراهيم حامد” اللذين حصلا على ٦٧ مؤبد و ٥٤ مؤبد على التوالي، ليكونا صاحبي أعلى حكم مؤبد في التاريخ، عدى عن أصحاب الأحكام التي تتجاوز الـ٢٠٠ عام والـ١٠٠ عام!
الغرفة التي يقطن فيها صديقنا “محمود” رفقة عشرات الأسرى تفتقر إلى الحد الأدنى من المقومات الإنسانية والصحية، فهي عبارة عن “مقبرة” للأحياء .
لدرجة أن بعضهم يضطر للسهر طوال الليل بانتظار أن يستيقظ أحد زملائهم ليتسنى لهم النوم مكانه.
يصف صديقنا “محمود” هذا “القبر” بأنه جحيم يتعرض فيها الأسرى إلى الإهانات المتكررة من السجّانين و إلى التفتيش الجسدي وخلع الملابس عند الخروج أو العودة إلى السجن، ويتم مصادرة الأدوات الخاصة بالمعتقلين، مثل الملاعق والدفاتر وصور أقاربهم والرسائل الخاصة.
يروي “خالد” وهو أحد الأسرى المحكومين بـ٩٩ عام لصديقنا “محمود” :
أنه حُرم من زيارة أهله لسنوات طويلة، لأنه كان ممن يخوضون حملات الاضراب للمطالبة بأبسط حقوق المعتقلين .
ويروي “جمال” وهو أحد الأسرى المحكومين بـ١٠ مؤبدات لصديقنا “محمود”:
أنه حُرم مرات عدة من أداء الصلوات حتى أن جنود الاحتلال تجرئوا على المصاحف فقاموا بتمزيقها أمامه و البصق عليها وعندما حاول منعهم قاموا بالاعتداء الجسدي عليه مما ترك كدمات واضحة في جسده!
يقول صديقنا ” محمود” أن هناك من يعيش هذا الجحيم وهذا العذاب منذ عشرات السنين من الإعتقال، حتى أن هناك من الأسرى من فقد عقله جراء التعذيب الجسدي والنفسي.
يروي أحد الأسرى القدامى ويُدعى “عبد الحكيم” وقد حكم عليه “مدى الحياة” لصديقنا “محمود” أن هذا السجّان الظالم لا يفرق بين الرجل والمرأة داخل سجونه فكلاهما يواجه الإهانات والضرب والشبح واستخدام الأهل للضغط والاستفزاز بهدف حمل الأسير على الاعتراف.
فإحدى الأسيرات كشفت أن ابنتها اغتصبت أمام عينيها عندما رفضت الإدلاء بأي حديث للجنود خلال التحقيق!
وأخرى حرمت من أبنائها لمدة عام لتكتشف أنهم وضعوا في ملاجئ للأيتام!
وأخرى ترغم على وضع مولودها وهي مقيدة اليدين والرجلين!
وهناك أسيرة هُددت بهدم بيت عائلتها لكن والدتها طلبت منها أن لا تعترف في الوقت الذي كانت جرافة التهديم تقف أمام باب البيت!
ويكمل “عبد الحكيم” :
سناء شحادة وأحلام التميمي وأرينا السراحنة وقاهرة السعدي وغيرهن واجهن أبشع أنواع التعذيب، مثل الشبح على الكرسي لساعات طويلة خلال التحقيق، والحرمان من النوم، ووضع الأسيرة في زنزانة ضيقة جدا وقذرة، إضافة إلى ممارسات وسلوكيات غير أخلاقية يقوم بها السجانون أمام الأسيرات لكسر إرادتهن.
صُعق صديقنا “محمود” من هول ما شاهد ومن هول ما سمع وأدرك أن ما يجري بحق الأسيرات ما هو إلا جرح غائر في قلب كل حُر ، لكن ماذا عساه أن يفعل وقد أحيط بجدران الزنزانة الضيقة .
سأل صديقنا “محمود” أحد الأسرى وكان يُدعى “ناصر” عن وضع الأسرى في الأعياد؟
فأجابه “ناصر” وقد أخذ نفس عميق :
العيد!
ااااه من العيد!
كما قال المتنبي “عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ”!
السَجّان يتعمد أن ينتزع منك فرحة العيد خصوصاً في زيارات الأهل والأقارب، تخيّل أن تُهان أُمك أمام عينيك صبيحة العيد من ذلك السجّان اللعين، أو أن يُشتم أباك الكهل على مسمعك ولا تستطيع أن تُحرك ساكناً !
تتلهف لحضن أبنائك وتكتفي فقط بالنظر إليهم من فتحات السياج المسموح في الزيارة!
تود في تلك اللحظة أن تأكل القضبان بأسنانك فقط لتحضن أبنائك الذين حُرموا من صدر أبيهم منذ سنين.
لم يتمالك صديقنا “محمود” نفسه، تاهت الكلمات في فمه، اكتفى فقط بالدموع.
صديقنا “محمود” حاله حال أكثر من ٦٠٠٠ أسير فلسطيني في سجون العدو الصهيوني حسب إحصائية شؤون الأسرى حتى عام ٢٠١٥ م.
٦٠٠٠ أسير يعانون من التعذيب الجسدي والنفسي، منهم من هو مريض بالسرطان، ومنهم من يعاني من صعوبات التنفس، ومنهم من هو فاقد للبصر لا للبصيرة ، منهم من تم أسره وهو “عريس” لم يهنأ بعروس أحلامه، منهم من كان على مشارف التخريج الجامعي ليُفرح أمه وقد حرمه السجّان ذلك، منهم من كان أباً يشتاق صدر إبنه لحضنه، منهم من كان إبناً يرعى والده الكهل، منهم من كان مُعلماً يفتقده تلاميذه، منهم من كان يحلم أن يكبر بين أهله، تحولت هذه الأحلام إلى “قبر” للأحياء يُسمى “زنزانة!
حتى الطفل كان له نصيب من هذا العذاب ، فبحسب تقرير نشرته الـ BBC في العام الماضي تذكر فيه أن القوات الاسرائيلية اعتقلت في السنوات العشر الاخيرة حوالي 7000 طفلا فلسطينيا تتراوح اعمارهم بين 12 و17 عاما اغلبهم من البنين – اي بمعدل طفلين في اليوم الواحد.
هم يريدون أن يقتلوا الوطن فينا مبكراً ، لكن هيهات هيهات.
والله لو برينا الأشجار أقلاماً وكتبنا ليلَ نهار عنكم يا شرف الأمة يا أسرانا ما أوفيناكم عُشر معاناتكم ، أنتم يا أحرار قبلة الأحرار، ومن يسكت عن حقكم لهو “المُكبَّل” بقيود الذل والخنوع.
أسرانا ، خلوتكم عبادة، حريتكم واجبنا..
أسرانا … منا ألفُ سلام
‫#‏فلسطينيات‬
‫#‏سامي_السلوادي‬

أعجبنيإظهار مزيد من التفاعلات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى