كيف يفهم السجناء اليهود السلام مع العرب؟

كيف يفهم السجناء اليهود السلام مع العرب؟
د. فايز أبو شمالة

عشية انعقاد مؤتمر مدريد 31/10/1991، تم نقلي من سجن نفحة الصحراوي إلى مستشفى سجن الرملة، كنت مريضاً، وفي طريقي لإجراء عملية جراحية، ومع ذلك كنت مقيد اليدين والقدمين وسط مجموعة من السجناء اليهود المدنيين، وكانت سيارة البوسطة التي تنقل السجناء مكتظة ولزجة ومعبأة بدخان الحشيش والألفاظ البذيئة.

في تلك الرحلة الشاقة لم يكن معي في البوسطة إلا عدد قليل من السجناء العرب العسكريين، أما بقية ركاب العربة فكانوا من السجناء اليهود، حوالي أربعين يهودي حشاش وحرامي ومغتصب وقاتل وسارق ومتحايل ومجرم وحاقد، أما نحن العرب، فلا نتجاوز ستة أسرى فقط متناثرين بين السجناء اليهود.

في تلك الرحلة البائسة، وبمناسبة انعقاد مؤتمر مدريد للسلام، دار نقاش سياسي بين سجين عربي حديث العهد بالسجن وأحد السجناء اليهود المدنيين، وكان السجين العربي يرفض مؤتمر مدريد للسلام، ويصر في نقاشه مع السجين اليهودي أن هذا السلام لن يجلب لكم الأمن، وأن هذا سلام أنظمة عربية مرفوض من عموم الشعوب، وأن الحرب بيننا وبينكم إلى يوم الدين، وأن مصير دولة إسرائيل هو الزوال، ولا بقاء لكم في هذه الديار.

احتدم النقاش بين السجين العربي والسجين اليهودي، وبدأ السجناء اليهود يشاركون في الجدال، بعد أن استفزهم الحديث، واستنفر فيهم القلق، وأثار لديهم غريزة البقاء، والخوف من المجهول، فإذا بكل السجناء اليهود وقد ائتلفت قلوبهم على حب إسرائيل، ونسوا أنهم سجناء مجرمون، لقد ارتدوا إلى أصولهم، وتحمسوا لدولتهم، وذابت بينهم الخلافات والفروقات، وبدأوا يغضبون من النقاش، ويتجمعون حولنا بما يشبه الحلقة، وسط صراخهم، وتهديدهم، وراحوا يرددون جملتهم الشهيرة: الموت للعرب، العربي الطيب هو العربي الميت، مصير العرب هو الموت، ولا ينفع مع العرب إلا القوة، واشتد وطيس التهديد، حتى أوشك السجناء اليهود الانقضاض علينا، وتمزيقنا، ونحن ستة سجناء مقيدون، وهم أربعون بلا قيود.

لقد خفت بجد، وارتعشت مفاصلي، وأنا أتلفت حولي بحذر، فلا مهرب لنا، ولا مخرج، ولو بدأ أحدهم الضرب، فلن نعرف كيف ندافع عن أنفسنا، ونحن المقيدون وهم الطلقاء، ولا مغيث لنا، وعربة البوسطة مغلقة بإحكام، وتعبر المسافة بين سجن بئر السبع وسجن الرملة بسرعة فائقة، ولن يسمع صراخنا الحراس، فما العمل؟

رسمت ابتسامة سياسية على شفتي، وتدخلت في النقاش على وجه السرعة، وكان قصدي امتصاص غضب السجناء اليهود، فقلت لهم بالعبرية: هذا السجين العربي الذي ناقشكم، هو جزء من الشعب الفلسطيني، ولا يمثل كل الشعب، فغالبية الشعب الفلسطيني مع “أشف” منظمة التحرير، والمنظمة تشارك في مؤتمر مدريد للسلام، نحن الفلسطينيين نفتش عن السلام، نحن عشاق السلام، نحن نرغب بالعيش مع اليهود بأمن وسلام، نتعاون في كافة المجالات، ونبني شرق أوسط جديد بلا حروب، وبلا موت ، وبلا عذاب وجراح، وبلا سجون!

استمع السجناء اليهود لحديثي، وهدأ انفعالهم، وانطفأت نار غضبهم، وعبرنا الرحلة بسلام، وسط أحلام السجناء اليهود، الذين راحوا يحلقون في الآفاق، وهم يفصحون فيما بينهم عن رؤيتهم للسلام، فهذا السجين اليهودي المتهم بالسرقة يقول لصديقه: مع السلام يمكنننا أن نسرق في الرياض ونبيع المسروقات في الكويت، وقال السجين اليهودي الحشاش لصديقه: مع السلام يمكننا جلب الحشيش من لبنان، وبيعه في شوارع القاهرة، وقال السجين المهرب للسلاح لصديقه مزيف الدولارات: إنها فرصة كي نصبح من أصحاب المليارات.

لقد فرض مؤتمر مدريد حضوره على السجناء اليهود طوال الطريق، وواصلوا النقاش فيما بينهم، والأمل هو التحرر من الأسر، وتحقيق الأحلام من خلال السلام.

أما أنا، فقد وصلت إلى مستشفى سجن الرملة بسلام، ليبدأ النقاش بيني وبين طبيب المستشفى عن مؤتمر مدريد، وكيف سيكون مستقبل المنطقة مع السلام، في ذلك اليوم أنهى طبيب مستشفى السجن حديثه قائلاً: السلام يوفر لنا فرصة لتصدير خبراتنا الطبية إلى الدول العربية.

عشية مؤتمر مدريد، وداخل مستشفى السجن، ابتسم أحد السجناء اليهود المصاب بالإيدز، والمتهم بالاعتداء الجنسي على قاصر، وقال لزميله الجريح المتهم بالقتل: يمكننا ممارسة الرذيلة والجريمة في كل العواصم العربية والهرب إلى إسرائيل بلا خوف أو وجل!

استرجع الأحداث بعد ثلاثين عاماً، وقد أوشكت الاتفاقية التي وقعها ابن زايد وملك البحرين مع نتانياهو أن تحقق تخيلات اليهود وأطماعهم!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى