جحيم الشك أم نعيمه؟ / خيري منصور

جحيم الشك أم نعيمه؟

بعد قرون من ابن خلدون ونظريته في مقارنة الروايات التاريخية وترجيح أقربها إلى الحقيقة، من خلال القرائن. وبعد قرون من ديكارت ومقولته الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وبعد قرن على قراءة طه حسين للشعر الجاهلي، مستفيدا من الشك الديكارتي.. نقرأ عبارات من طراز، مما لا يختلف حوله اثنان، أو مما لا شك فيه، فمن أين أتى هؤلاء باليقين واستنقعت عقولهم؟
قد يكون الشك جحيما، لأنه أسئلة لا تتوقف، وعدم قبول بأي إجابة على أنها النهائية والحاسمة، لكن اليقين ليس نعيما حتى لو شعر من أركنوا إليه بذلك. والعقل يتعرض أيضا لنوع من الحجر، وقد يتم تدجينه بقرار مسبق فرارا من الحرية، ومن كل ما تقدمه ثقافة الشك المنهجي من مفاعيل حيوية، ومن يرددون عبارات من طراز، مما لا شك فيه، أو مما لا يختلف فيه اثنان، قد يجهلون أو يتجاهلون أن الإنسان يختلف حتى مع نفسه، ويراجع آراءه بنقد ذاتي هدفه التجاوز والتدارك تماما، كما فعل مفكرون وفلاسفة توقفوا لتأمل ما أنجزوه واختباره.
وتعد عبارة أمانويل كانت عن السبات الفكري والدوغمائي نموذجا في هذا السياق، فالفيلسوف راجع نفسه في ضوء ما بلغه من معرفة، وقد يكون أحد أسباب غياب الدراما وصراعاتها في ثقافتنا، هو الرؤية الأفقية والغنائية للعالم والتاريخ، وهناك دراسة قيمة في هذا المجال لمحمد عزيزة أثارت عند صدورها ردود أفعال متباينة، وقد يتعرض الشك في بعديه المنهجي والمعرفي لاستهجان في زمنه، كما حدث في مصر بعد صدور كتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي حيث صودر الكتاب، لكن بعد عقود طبع ونشر عدة مرات، وما كان البعض يتصورون أنه رذيلة في زمن صدوره، أصبح بمرور الوقت وتطور الوعي فضيلة، وقد يكون الصراع المزمن بين ثقافة الشك المنهجي وثقافة الإجابات المعلبة من أشد الصراعات في تاريخ الفكر البشري، ولو حسم الأمر لليقين على حساب الشك لما كان العقل البشري الآن على ما هو عليه، لأن الشك يدفع إلى استدعاء القرائن، ومقاربتها وهذا ما قاله ابن خلدون الذي قرأ التاريخ كما لم يقرأ من قبل، وأدرك أن الأهواء والمصالح تتحكم في الرواة، لهذا فإن أقربهم إلى التصديق هو ذلك الذي ترجح كفته القرائن في مختلف المجالات.
وإذا كان بعض الناس يهربون من الحرية ويخافونها، كما يقول أريك فروم، فإن احتمال الشك ليس ميسورا للجميع، لأنه شاق وعمليات حفر لا تنتهي وأسئلة تتناسل من بعضها، وحين نقرأ عن سقوط الرومان مثلا، نجد أن قراءات المؤرخين تتفاوت تبعا لوعيهم، بحيث يصل التبسيط بالنسبة إلى أحدهم حدّ القول إن البنسلين لو عرف في ذلك الزمن لأجل سقوط الامبراطورية، ويقابل هذا المثال في تاريخنا المقاربات المتفاوتة لدراسة أسباب سقوط الدولتين الأموية والعباسية، أو بعد ذلك تفكك الامبراطورية العثمانية، ولا يخرج الاتحاد السوفييتي في انهياره عن السياق ذاته، فالأسباب التي قدمها مؤرخون مختلفون أيديولوجيا تفرط في التبسيط والاختزال، وهناك عبارة شهيرة يرددها البعض نقلا عن مؤرخ أوروبي معاصر، هي أن عدم وجود الإنسان المناسب في المكان المناسب في الاتحاد السوفييتي أدى إلى انهياره، وأحيانا نقرأ تحليلات لظواهر كبرى وفارقة في التاريخ تبدو مثيرة للسخرية، لأنها تمارس الرغائبية والإسقاطات النفسية والأيديولوجية، وتعيد إنتاج التاريخ بما يلبي النوايا. وثقافة اليقين تحسم الأمر حتى بالنسبة لشخصيات إشكالية في التاريخ، مثل بسمارك، وكان أحد المؤرخين قد قال إن هناك أكثر من عشرين بسمارك، وكان يعني الكتب التي تناولت هذه الشخصية.
وحين تتعدد الشخصية فمعنى ذلك أنها تستجيب لتعدد من يتناولونها وفقا لتعدد مناهجهم وأهوائهم، لهذا هناك من دافعوا عن طغاة وحاولوا تبرئتهم رغم الإجماع على تصنيفهم في خانة الشر المطلق، والمسألة تخضع لمنجزات في علم النفس الحديث، حيث أضيئت زوايا من الداخل الإنساني كانت غامضة من قبل، ولدينا مثالان متباعدان زمنيا في ثقافتنا العربية، يؤكدان لنا القصور في التعامل مع ما يصدر عن الآخرين، وما كتبه طه حسين في عشرينيات القرن الماضي عن الشعر الجاهلي كان متأثرا إلى حد ما بدراسة للمستشرق ماغليوت، نشرت قبل صدور كتاب طه حسين ولم تستوقف أحدا. والمثال الثاني ما أثاره كتاب نقد الفكر الديني للراحل صادق العظم، خصوصا في فصل مأساة إبليس، فهذا الفصل نشر في مجلة قبل سنوات من صدور الكتاب ولم يستوقف أحدا، ما يجزم بأن ما يتحكم في مثل هذه المواقف هو الترصد مع سبق الإصرار.
لكن، أليست مفارقة كبرى، بل فضيحة فكرية أن نقرأ في أيامنا عبارات من طراز ما لا يختلف حوله اثنان، أو مما لا شك فيه.

٭ كاتب أردني

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى