السيريالية البديلة / خيري منصور

السيريالية البديلة

لم تكن محاولات التحديث في أدبنا العربي بلا عوائق ومصدات، لأن التيارات الاتبـــاعية المحافظة تعاملت بشيء من القداسة مع الماضـــــي، لمجرد أنه أصبح النموذج الذي يقاس عليه، وأقرب الأمثلة اإلينا حركة الشعر العربي الحديث، أو ما سمي شعر التفعيلة أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، فقد تعرض رواد هذه الحركة للشيطنة الفكرية والفنية وعوملوا بقسوة بلغت حدّ الحصار.
وبالفعل حالت التيارات المحافظة دون مشاركة شعراء الحداثة في مؤتمرات أدبية، كما حدث لصلاح عبد الصبور وأحمد حجازي، وقد لا يكون التجديد في أي ثقافة أخرى مطالبا بتـــــبرئة الذمّة من تدنيس المقدس، أو من الخيانة للتراث، لهذا جاءت حركات التغيير مُتباعدة وبإيقاعات بطيئة، لأن الناس غالبا ما يفضلون تجنب الطرق الوعرة ويسيرون في طرق معبدة ومطروقة وآمنة.
ورغم أن العالم العربي منذ عام 1948 مرّ بكوارث وطنية وزلازل سياسية لم تتوقف تردداتها حتى الآن، إلا أن الأدب ظل أقرب إلى المحافظة وإيثار السلامة، وما ظهر من تيارات حديثة وما بعد حديثة في الغرب، منذ الحرب العالمية الأولى، سواء كانت السيريالية والدادائية والمستقبلية، أو مسرح اللامعقول ما كان له أن يحدث في عالمنا العربي، لانعدام حرية التعبير أولا، وللسطوة التي يمارسها السائد وما يفرزه من ذائقة داجنة، وربما لهذا السبب قال يوسف إدريس عبارته الشهيرة وهي، أن الحريات المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبا واحدا، لكن المفارقة هي ظهور سيريالية بديلة ودادائية من طراز غير أدبي، إضافة إلى مسرح اللامعقول، وقد تولت السياسة إفراز مثل هذه التيارات، وما اقترفه بعض الجنرالات من حماقات سياسية وعسكرية، قد يكون أعسر على الفهم من أي لوحة سيريالية لسلفادور دالي أو بيكاسو، وقد تكون الساعات الممطوطة والمعلقة كأوراق جافة على أغصان الشجرة لسلفادور دالي، التي تعني بطء الإيقاع الواقعي لا المتخيل لحياتنا تعبيرا عن واقعنا، وهذا ما عبّر عنه خليل حاوي حين قال إنه عرف كيف تمط أرجلها الدقائق، كيف تجمد تستحيل إلى عصور، وانتهى إلى الجزم بتخثر الزمن حين قال هذي العقارب لا تدور.
ويذكرنا حاوي ليس فقط بساعات دالي، بل بما كتبه هيرمان ملفيل في رواية «موبي ديك»، وبالساعة المقلوعة العقارب في رواية فولكنر «الصخب والعنف» إضافة إلى لوحة شهيرة لسيزان بهذا المعنى.
الساسة العرب والجنرالات قدموا نيابة عن الشعراء والرسامين والروائيين سيريالية بلا حدود ودادائية كاسم دادا، الذي اشتق منه هذا المصطلح وهو انعدام المعنى والدلالة. هكذا حققت السياسة نيابة عن الثقافة تجارب كانت محظورة على المثقفين والكُتّاب، ولسنا بحاجة إلى أمـــثلة لأنها مبذولة أمامنا على الشاشات والصحف والأرصفة، فما يحدث في واقعنا العربي يتعذر تفكيكه، لأنه بلا منطق داخلي، وبلا تراكم يتيح له أن يتحول إلى أنساق، أو سياقات، فالبداية دائما من الصفر ومن أول السطر، لأن من تقاليد حياتنا السياسية إعدام الموتى، وإعادة قتلهم وتجريم السلف من أجل تبرئة الخلف، وقد يستحيل أن تجد في بلد عربي ثلاثة أو أربعة رؤساء أحياء.
ما السيريالية إن لم تكن هذا التشوه في المشهد، بحيث تأخذ العين مكان الأذن، ويحــتل الأنــــف موقع إصــــبع الإبهام الذي يتولى البصمة في واقع تجتاحه الأمية كوباء، وما الدادائية إن لم تكن إضــافة ذيل إلى الآدمــــي، بعد ملايين السنين من تلاشيه، أو ممــــارسة التــــقريد والقطعنة كاستراتيجية في الحكم كي يصبح البشر قطع غيار، أو مسامير متشابهة لا يفرق بينها غير الأسماء.
والمفارقة أن الأدب العربي لم يتخل وسط هذا الانهيار عن وقاره المزعوم، لأن الكتابة ما تزال رهينة تقاليدها وهاجسها البحث عن شرعية تكرسها طلبا للاعتراف، ولو كتب أو رسم أي فنان عربي، واحدا في المليون مما اقترفه ساسة وجنرالات، لتجاوز أكثر اللوحات سيريالية واستعصاء على الفهم بالمنطق المجرد.
وأذكر أن بيكاسو رسم بورتريه لسيدة، ما أن رأته حتى صاحت في وجهه قائلة هذه ليست أنا، فأجابها بيكاسو لكنك سوف تشبهينها ذات يـــوم، وكأنه يقول لها أنه يرسم الممكن والهاجع تحت الجلد والمظهر الخارجي.
وقد تبدو مسرحيات اللامعقول، أو العبث من طراز مسرحيات بيكيت ويوجين يونسكو وأرابال وغيرهم في ذروة العقلانية، إذا قورنت بما نشهده الآن في واقعنا العربي، سواء تعلق الأمر بالانتظار العقيم، كانتظار غودو عند بيكيت، أو بالمغنية الصلعاء عند يونسكو.
المسرح بمعناه الأدبي في عالمنا العربي عاقل ووقور، وأحيانا كوميدي حتى الغثيان والبكاء، لكنه بالمعنى السياسي عبثي بامتياز، ونادرا ما كانت خشبة مسرح اللامعقول في سعة وطن، وأبوابه مفتوحة على مدار الساعة وبلا تذاكر ويعرض بالمجان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى