مختصر مفيد

مختصر مفيد

د. هاشم غرايبه

المثقف هو المادة الأولية لتصنيع المفكرين والفلاسفة، ولهذا التحول يجب أن يكون تفكير المثقف حرا من قيود الرأي المسبق، أي خاليا من الإصطفاف السياسي.

لتعليل ذلك: لنتصور العقل كحصان جامح، تمثل المعرفة المساحات التي يستكشفها في انطلاقه، لذا لكي يصبح المثقف مفكرا عليه أن يسابق الزمن في قطع المسافات، فالعمر قصير لاستيعاب الفيافي الشاسعة، لذلك إن كان المثقف مربوطا الى فكر مسبق سيكون عدو الحصان حول الشجرة المربوط اليها وليس الى الأمام،

مقالات ذات صلة

ومهما كان الحبل طويلا سيظل يقصر شيئا فشيئا في كل دورة حتى يلتصق أخيرا بالشجرة فلا يتحرك بعدها.

ذلك يفسر قلة المفكرين لدينا، وقد يكون في هذا التصور تفسيرا أيضا لانطفاء وهج الثورات العربية بسرعة بعد انطلاق عنفوانها عام 2011، لأن الثورات لا تنجح إن لم يسبقها نهضة فكرية استشرافية يضطلع بها مفكرون ويضعون لها الأرضية الفكرية التي تكفل دوامها الى حين تحقيق أهدافها في التحرر من المستبدين والطغاة. فما كانت الثورة الفرنسية لتنجح من غير أفكار فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو.

لذا فالمسؤولية في تغيير الواقع المزري الذي تعيشه أمتنا يقع على عاتق المفكرين إن وُجدوا وإلا فليس أمامنا إلا المثقفين، نعلق عليهم كل آمالنا. حتى يكونوا بحجم المسؤولية، ومؤهلين لاجتراح الحلول الناجحة، يجب بداية أن نتجاوز التجارب الخاطئة الماضية وننتهج منهجا جديدا يبدأ من التمسك بالأسس قبل البحث في الآليات.

الأساس الأول: التوقف عن الدعوة الى قطع الصلة بالماضي وتحميله سبب انهزامنا، فلم توجد أمة في التاريخ انقطعت عن ماضيها والتحقت بالغزاة سوى الشعوب الأصلية في الأمريكتين واستراليا، ورأينا هذا الإلتحاق لم يحقق لها تقدما ونهضة بل الإندثار والإمّحاء. عندما انهزمت الأمة اليابانية،

لم تكن أقل عراقة من الأمة العربية، فماضيها مجيد أيضا، لكنها عندما انهارت عسكريا استسلمت وأصبح قيادها في يد من هزموها، رغم الإستسلام إلا أنها لم تفقد إيمانها بذاتها، ولم يخرج من بين مثقفيها من دعا الى (التأمرك)، بل حدثت نهضة فكرية باشرت بدراسة أسباب الإنهزام، وبدأت بالقيم التربوية، أي راهنت على الأجيال القادمة بالإعداد والتأهيل، كما أنها لم تحمل المسؤولية للمعتقد الذي تنتهجه (البوذية) ولا لقيم تأليه الإمبراطور، بل حافظت على كل ذلك لأنه يمثل لديها الجذور والمرتكز. نستنتج من نجاح اليابان في استعادة مكانتها من جديد وخلال نصف قرن، أن الدعوة الى إحلال القيم الأوروبية، بديلا لقيمنا التليدة، ولمنهج الليبرالية المتوحش بدلا من المنهج الإسلامي الإنساني، لا يمكن أن يقصد به خدمة مشروع نهضتنا، بل العكس.

الأساس الثاني: يجب الإنتباه الى حقيقة أن أمتنا لم تنهزم في مواجهة عسكرية مع قوة غازية، كان الأمر انهيارا داخليا للدولة الإسلامية ممثلة بالدولة العثمانية، ولأسباب الفساد والتفسخ الذاتي، فكان الناتج سيطرة من الطامعين الغربيين على كامل المنطقة العربية بالإحلال، وبسبب تخاذل القيادات حينا وتآمرها أحيانا أخرى، فنشأت أنظمة (سايكس – بيكو) ضمن هذه الحالة المرضية، فهي ليست أنظمة حكم وطنية ذات إرادة مستقلة ونابعة من مصلحة القطر، بل محكومة بميثاق غير معلن مع المستعمر الأوروبي ثم الأمريكي، عنوانه ترسيخ التبعية محافظة على مصالحه مقابل بقاء الحاكم في السلطة.

لذلك فانهزامنا ليس عسكريا، فذلك لم يحدث، إنما هو بسبب سيطرة أنظمة حكم على كافة أرجاء الأمة، تتميز بقلة الكفاءة وانعدام الولاء للأمة، وعدم الإكتراث بمصالح الناس ولا الإهتمام بشؤونهم إلا بما يكفل احتواء تذمرهم وقطع سبل ثورتهم عليها. لذلك فهي تعمل جاهدة لتيئيس الناس من إمكانية التغيير، ومنع التحركات المجتمعية الهادفة لمعالجة الأسباب الحقيقية، في سبيل ذلك تمكنت من احتواء الحركات المعارضة بوسيلة العصا والجزرة.

الأساس الثالث: ثبت بالوقائع أن الأنظمة جميعها ملتزمة بإملاءات المستعمر، بغض النظر عن التصنيفات: تقدمية – رجعية، أو ممانعة – مهادنة، أو المعسكر المقاوم – المعسكر المسالم، فهي جميعها استبدادية، والحكم فيها وراثي بغض النظر أن نظامها ملكي أو جمهوري، فهذه كلها تسميات لأغراض التنوع الفولكلوري، لكن الواجب المكلفة به هو منع وحدة هذه المنطقة من جديد، وبما أن اليافطة الأقوى تأثيرا هي الإسلامية، لذلك ورغم خلافاتها بسبب الأطماع الفردية البينية، إلا أن الأمر الوحيد الذي يوحدها ويدفعها للتنسيق هو منع وصول الإسلام الى مركز اتخاذ القرار.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى