لغتنا الجميلة

لغتنا الجميلة
د. هاشم غرايبه

طوال العشرين سنة الماضية، وفي جميع الأقطار العربية، نشهد تحولا مبرمجا غير معلن الى تحلل الدولة من مسؤوليتها عن التعليم، والتحول الى التعليم في القطاع الخاص، وتحديدا التعليم بلغة غير العربية، رغم أنه يندر أن تجد دولة، سواء تلك المتقدمة الى الأكثر فشلا، تعلم ابناءها بغير لغتها الأم.
رافقت هذه التحولات المشبوهة نغمة مشبوهة الغرض، تقول إن اللغة العربية صعبة معقدة، مقابل اللغات الأوروبية الأسهل تعلماً، فلماذا التمسك بها خاصة وأنها قاصرة عن احتواء المصطلحات العلمية الحديثة؟.
لا شك أن اللغة العربية أصعب لمن لم يكن لسانه عربيا، لكنها لمن كانت هي لغته الأم سهلة.
لكن بالمقابل ليس كل ما كان أسهل هو أفضل، ودائما ما تكون الآلة التي تؤدي أغراضها بشكل أمثل، أكثر تعقيدا، والتدرب على تشغيلها يحتاج جهدا أكبر، لكن ذلك يكون مرة وبعدها يعوض كمال أدائها ذلك الجهد الزائد، ويبقى ذلك التفوق طوال الوقت، فتعلم قيادة الدراجة ذات الثلاثة عجلات أسهل من ذات الاثنتين، والتي ما أن يتمكن الطفل من قيادتها لا يعود الى ذات الثلاثة أبدا.
قوة اللغة العربية وغناها أنها لغة معربة، واللغات السهلة كالإنجليزية أو الألمانية مثلا هما من اللغات المبنية، ولما كان الإعراب هو بيان المعنى، لذلك فالأداء الأمثل للغة هو في مقدار بيانها، أي قدرتها على إيصال المعنى المراد بأقل عبارات ممكنة، وبلا أي لبس.
تتميز اللغة العربية بظهور واحدة من الحركات الأربع على آخر الكلمة (الرفع والنصب والجر والسكون)، وإن تعذر ذلك تكون مقدرة، وهذه الحركة تدل على المعنى.
ولتوضيح معنى ذلك، لنأخذ للمقارنة كلمة (الرجل)، عندما تستعمل في جملة في موقع الفاعل تكون (الرجلُ)، وفي موقع المفعول به (الرجلَ)، وفي موقع المجرور (الرجلِ)، وهذه الحركة على آخرها دلتنا على دور مختلف للرجل في كل حالة، بينما في الإنجليزية (the man)، تظل اللفظة ذاتها في كل الإستعمالات بلا أية دلالة، فلا نفهم دورها إلا من سياق فهم الجملة كاملة، لذا فهي مبهمة لا تدل بذاتها على حال محددة.
سبب التعقيد في اللغة العربية الذي يراه أبناء الأجيال الجديدة يعود لأمرين:
1 – هو الجمود في المناهج التربوية وعدم فهم الجهات المعنية للأساليب التعليمية المناسبة، فتجد تحميلا مبالغا فيه للتلميذ من الصفوف الأولى لحجم كبير من القواعد، وإلزامه بحفظها من غير فهم كيف جاءت هذه القواعد ولا الأسس التي انبنت عليها، وهذا أمر يتحمله المسؤولون التربويون.
2 – السبب الثاني وهو الأهم والذي أعتقد أنه وراء نشوء السبب الأول أيضا، وهو وجود نوايا خبيثة لدى أصحاب القرار السياسي، لأجل تجهيل النشء الجديد بلغتهم، وتنفيرهم منها، والهدف تغريب المجتمعات المسلمة وعلمنتها، والذي هو البرنامج الأساسي الموكل الى أنظمة (سايكس – بيكو).
وقبل أن يسارع العلمانيون الى اتهامي بنظرية المؤامرة أقدم البراهين التالية:
أ – كان أول برامج الأتاتوركية في تركيا التحول في كتابة اللغة التركية من الحروف العربية الى الحروف اللاتينية، كخطوة أولى لإلغاء تعلم اللغة العربية، لأنهم يعلمون أنها الرابط القوي للمسلم بعقيدته، فالقرآن بالعربية، والصلاة والأذان بها، فاعتقدوا ان خير وسيلة لإبعاد الأجيال القادمة عن الإسلام هي تجهيله بالعربية.
وفعلا، وقبل مجيء نظام حكم مخلص لوطنه وعقيدته، نشأت أجيال أربعة من الأتراك لا تعرف العربية، فلا يمكنها قراءة القرآن ولا كتب التاريخ التركي المكتوبة بحروف عربية، ولم يحفظ علاقة الناس بدينهم غير التربية البيتية.
لذلك جرى تعميم الأتاتوركية على باقي الأقطار المسلمة.
ب – الملاحظ أن المناهج المدرسية في كافة الدول العربية بشكل عام، وللغة العربية خصوصا، أنها تخضع للتعديل سنويا، فهل مجتمعاتنا بهذه السرعة من التطور بحيث تضيق على مقاسها مناهج السنة الماضية!…أم أن ذلك للتمرير التدريجي لخطة مبرمجة عميقة!؟.
ج – لاحظنا نغمة مشبوهة رافقت تلك التعديلات، تدعو لتنقية المناهج من (الفكر الإرهابي)، ولما كان الإسلام في مفهومهم هو رديف للإرهاب، يمكننا فهم الذي يريدونه بهذه التنقية.
د – خلال السنوات العشر الماضية (المرافقة لهذه النغمة)، هنالك تسارع مبالغ فيه نحو تعميم البرامج الأجنبية في التعليم المدرسي، بل وتحولت بعض الأقطار كالمغرب الى جعل التعليم الإلزامي في المواد العلمية ولكافة المراحل باللغة الفرنسية.
هـ – تكاد تكون الدول العربية هي الوحيدة في العالم التي يكون التعليم الجامعي فيها بلغة غير لغتها الأم، فحتى الكيان اللقيط مثلا استنهض اللغة العبرية المنقرضة، وجعلها لغة التعلم لكافة المراحل.
التمسك باللغة العربية آخر الحصون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى