تأملات صائم

تأملات صائم
د. هاشم غرايبه

كلما تعمقنا في فهم الوجود الإنساني على هذا الكوكب، نصل الى أن العمل الصالح هو معيار انسانية الإنسان.
ربما يستوقف المتأمل في كتاب الله أنه يجد دائما ذكر العمل الصالح تاليا للإيمان بالله، وفي اقتران، مما يدل على أنه منتج أول من منتجات الإيمان.
هنالك خمسون آية في القرآن الكريم ربط فيها الله تعالى الإيمان بالعمل الصالح، فإذا ما عرفنا أن علة وجود الإنسان كانت معرفة الله، والتي اذا ما تحققت ستؤدي حتما الى عبادته، والعبودية الخالصة ستحقق للإنسان تحررا من قيدين: الأول: العبودية والتبعية والخنوع لإنسان آخر لايختلف عنه في القدرات العقلية ولا الجسدية ولا يتميز عنه بأرجل أطول ولا بأيدي أكثر ولا بعيون وآذان أعلى أداء، يتميز فقط بالمال والنفوذ .. وهما أمران مكتسبان يمكن لأي شخص تحقيقهما.
والقيد الثاني هو العبودية للهوى والمتعة الغرائزية، اللتين قد يدفع ثمنهما من كرامته وحريته.
عندما يتحرر الإنسان من هذين القيدين ينطلق حرا يقوده عقله في فضاء الإبداع والتألق الإنساني بلا حدود، ويفهم أن الإنسان الآخر يحق له كل ذلك، فيساعد من لم تسعفه ظروفه لتحقيق متطلباته، عطاء ماديا للمحتاج، وتعليما وتدريبا لمن كان أقل علما وخبرة، ونصحا وهداية لمن لم يهتدي الى السبيل القويم.
هذا هو العمل الصالح، ولهذا السبب كان ربط الخالق له بالإيمان به.
على أننا يجب أن نميز بين العمل الصالح والعمل الحسن، فكلاهما نافع مفيد لكن الصالح منهما مختص بنفع الآخرين، مثل الدعوة الى هدي الله، والصدقة المادية، والإحسان بالتعامل مع الآخرين والمساعدة غير المأجورة للمحتاج لها، وتربية اليتيم وكفالته، والنصح ونقل الخبرات..الخ.
بينما العمل الحسن نافع لمن يعمله، مثل إتقان العمل، والإخلاص في أدائه، وإنجازه في موعده، وحذق الحرفة أو الصنعة، والإلتزام بمتطلبات الوظيفة..الخ.
هكذا يتبين لنا أن عنوان العمل الصالح هو العطاء، ونقيضه الظلم، الذي يعني أخذ الإنسان ما ليس من حقه، وما هو ليس من حقه فإنه قطعا يكون حقا لآخرين.
لذلك كان أول درس علمه الله تعالى لآدم عليه السلام هو أن لا يكون ظالما، فقد قال له: “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ”.
نلاحظ أنه تعالى لم يقل (فتكونا من العاصين) رغم أن مخالفتهما لأمره هي عصيان، بل وصف ذلك الفعل بالظلم، لأنه تناولٌ من الشجرة التي هي ليست من حقهما، وفعلا ذلك رغم أن رب العزة بين ذلك لهما مسبقا، وبذلك نستنتج أن ذنب الظلم عند الله أعظم من ذنب العصيان، فعصيان أمر الله خاضع للمغفرة، فيما لا يغفر الله ظلم الإنسان للإنسان، إلا أن يسامح به صاحب الحق.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل أن يصلي على ميت عليه ديْن، إلاإن كفل سداده أحد.
وهنا لا بد أن يستوقفنا قوله تعالى: “اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ” [سبأ:13]، فالمعروف لدينا أن الشكر قول باللسان، لكنه هنا توجيه للشكر بالعمل، فكيف يكون نتاج العمل شكرا إن لم يكن من جنس العمل الصالح الذي قرنه الله بالإيمان به؟.
لما كان جزاء الله للعبد من جنس العمل، فالأولى أن يكون شكر العبد لله على النعمة استعمالها في مرضاته، فلو كان الإنعام مالا فشُكره إنفاق على خلق الله، لأن الله لا يحتاج عطاء ولا إهداء.
وشكر نعمة أن فتح الله عليه من العلم تكون بتعليمه للآخرين ونفعهم به.
وشكر نعمة الصحة وكمال أداء وظائف الأعضاء تكون بأن لا يستعملها في معصية الله، فلا تمتد يده الى حرام، ولا تبطش بضعيف، ولا يمشي بقدمه الى مواقع الفاحشة، ولا ينظر بعينيه الى ما لا يحق له، ولا يتحدث بلسانه فحشا ولا كذبا ولا نميمة، ولا ينصت بأذنيه الى قول السوء وأذى الآخرين .. وهكذا مع كل جارحة.
متى ما حقق الإنسان شكر الله عملا، كان ذلك عملا صالحا، لأنه بالإستقامة على أمره، يكون بذلك قد أثبت فعلا إيمانه بالله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى