تأملات صائم

#تأملات #صائم
د. هاشم غرايبه
ظل العلماء الى فترة قريبة يجهلون وظيفة الغدة الزعترية في الإنسان (Thymus) فاعتقدوا بداية أنها مهمة لتعلم اللغة عند الطفل كونها ملاصقة لأعلى القصبة الهوائية، وكان ذلك بسبب أنها تكون كبيرة عند الولادة، ثم تبدأ بالتقلص الى أن تضمحل قبل عمر العشر سنوات، لكنهم لم يكتشفوا دورها الأهم إلا قبل فترة قريبة.
لقد وجدوا أنها قريبة الشبة بكلية عسكرية تدريبية، حيث تمر فيها خلايا الدفاع الأساسية ( الخلايا التائية T- Cells) المتكونة حديثا، بما يشبه الدورة التأهيلية، حيث تتعلم كيفية التمييز بين الخلايا الغريبة وخلايا الجسم الطبيعية، وتمر بفترة تثقيف مكثفة في نهايتها يتم اختبار الناجحة منها فيسمح لها بالمرور لأداء مهامها، وأما التي تفشل في امتحان الكفاءة، فلا تستطيع التمييز بين العدو والصديق، فيجري التخلص منها، لأن ضررها على الجسم سيكون أكبر من نفعها.
لذلك فهذه الغدة بعد أن تؤدي دورها وتدرب جميع الخلايا الأم المولد لخلايا الدم البيضاء المتخصصة بانتاج الخلايا التائية، وتضمن ان أجيال الحرس الأشداء القادمة ستولد مثقفة واعية مدركة تماما لواجباتها، تضمحل شيئا فشيئا الى أن تتلاشى.
هنالك الكثير مما يسمى بأمراض المناعة الذاتية أو الخرف المناعي التي تصيب البعض إما ولاديا أو بعد البلوغ، ومن أشهر هذه الأمراض التهاب المفاصل الروماتيزمي، والتصلب المتعدد، والحزاز المتبسط، ومرض بهجت، وأخرى كثيرة غيرها، من أمراض بعضها خطير مميت، وبعضها مزعج منغص للحياة فقط مثل الروماتيزم.
وصعوبة معالجة هذه الحالات ناجم عن حالة الخرف التي تصيب الخلايا المناعية (التائية) فهي لا تستطيع التمييز بين العدو الدخيل والخلايا الطبيعية التي تؤدي وظائفها، ففي حالة روماتيزم المفاصل، تهاجم خلايا المفاصل اعتقادا منها أنها عدوة دخيلة، فتبادر الى شن معركة الإلتهاب المعتادة في ذلك الموقع (المفصل)، كما لو أن هنالك دخول ميكروبات ممرضة، فتظهر أعراض الإلتهاب الأربعة المعروفة : الإحتقان والألم والإحمرار وارتفاع الحرارة، وبما أن خلايا الجسم التي تعرضت لهذا الهجوم هي طبيعية ولها وظائف هامة تقوم بها، تختل هذه الوظائف وتحدث ردات فعل منها، مثل زيادة في انتاج الخلايا، مما يحدث تشوهات وتعطل لوظائف المفصل الطبيعية.
في النتيجة تكون هذه المعركة ضارة بالجسم فتوهنه وقد تفتك به، لذلك يصعب معالجته..لأن المعركة داخلية فيه.
لو أسقطنا هذه الحالة على المجتمع المسلم الذي هو أشبه ما يكون بالجسد الواحد، سنجد أن هنالك فئة حريصة فعلا على الدين، وتخشى عليه من اختراق الأعداء له، لكنها مصابة بالخرف المناعي، فمن فرط خوفها على هذا الجسد ومن جهلها، لا تستطيع التمييز بين من يريد بهذا الدين والمجتمع خيرا ومن يريد به سوءا.
فبدلا من التصدي لأعداء منهج الله الخارجيين الذين تمكنوا من اختراق الأمة بأتباعهم الذين نصبوهم أولياء على أمورها، تبادر الى مهاجمة المفكرين الذين فتح الله عليهم من علمه، ورزقهم المعرفة وأعطاهم الحجة العقلية، ليدافعوا عن الأمة في معركة الوعي، التي تعتبر معركة العصر المصيرية، وبهدف المحافظة على هذا المنهج الإلهي، ونشره، والوقوف في وجه من يحاولون إقصاءه، بذريعة أنه ماضوي لا يصلح لهذا الزمان، والتي هي فعليا واجب الأمة عبر كل العصور.
لذلك تتحول جهود هؤلاء المصلحين الى الدفاع اتقاء للسهام التي تنهال عليهم من الخلف، والتي يطلقها أصحاب الفكر المتحجر الذي يأبى مغادرة المفاهيم التي كانت تعالج مشكلات عصر مضى، بكل ما فيه من فهم صحيح أو خاطئ، خوفا منهم من تحريف أسس العقيدة ومبادئها، باعتقادهم أن أية محاولة فهم معاصر لم يأت بها السلف، هي تحريف وابتداع.
الخرف المناعي لدى هؤلاء هو أخطر ما يصيب الأمة ويوقعها فريسة للغزاة المهاجمين، إذ يحول انتباههم عن الأجسام الخارجية المعادية، فلا تعود معركتهم معها، لأنهم منشغلون بمهاجمة أعضاء الجسم الصالحة، والتي تؤدي وظائف الجسد التي يحتاجها، فلا ينتج عن خرفهم هذا سوى إنهاك الجسم، وإبقائه غير قادر على مجابهة الدخلاء المعتدين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى