بلا مجاملة

بلا مجاملة
د. هاشم غرايبه

بعد انتهاء محاضرة قدمتها، كان موضوعها عن أنه لا مخرج من مأزق الأمة الراهن إلا بوحدتها من جديد، وقد استعرضت فيها تاريخ العرب، وبينت أنه لم تتحق لهم الوحدة في أية حقبة بناء على وحدة اللغة والعادات والجغرافيا، فما توحدوا إلا مرة واحدة عندما انتهجوا الإسلام عقيدة، أسر لي أحدهم بعد خروجنا: لو تحقق ما تدعو إليه وقامت الدولة الإسلامية من جديد، سأهاجر وأترك وطني.
لم أعلق على ما قال، فقد قال قبلا أحد رفاقه ما هو أسوأ، فعندما لمته على تأييده لإجرام الحكام الطواغيت بحق شعوبهم التي طالما تغنى بحقها في تقرير المصير، قال: يستحقون ذلك لأنهم اختاروا الإسلاميين ..الذين هم أخطر على الأمة من الصهاينة.
هؤلاء وأمثالهم، لا أرى نفعا من الجدال معهم، فرغم أن أفكارهم المعلبة، سرعان ما تتهاوى أمام الحجج الدامغة، تجدهم لا يجرؤون على اظهار عدائهم للإسلام صراحة، لذا يقفزون الى وصم من يدعو إليه ويدافع عنه بالتهمة الخشبية المهترئة من فرط الاٌستعمال: “إخونجي!”.
للإنصاف، فعلى الطرف المقابل، هنالك من المتدينين صنف متطرفون في تشددهم، تعتقد بصلاحهم عندما تراهم صوامين قوامين، لكنهم لا يقلون إضرارا بالأمة وتهديما لوسائل نهوضها من أولئك المتطرفين في عدائهم لمنهج الله، اعتقادا منهم أنه سبب تأخرها.
أما كيف اتفق الطرفان النقيضان على تحقيق هدف أعداء الأمة بإعاقة نهضتها، فلذلك قصة طويلة.
عندما بلغ الغرب في القرن التاسع عشر أوج قوته وشعر بتفوقه، كان أول ما فكر به تحقيق حلمه القديم بالسيطرة على المنطقة العربية، ولما كانت عصية عليه بفضل قوة الدولة الإسلامية (العثمانيين)، وضع نصب عينيه تفتيتها، ولا شيء أفضل لذلك من إثارة النعرات القومية، فاستنهض القومية العربية التي كان الإسلام قد نجح بتخليصها من النزعة الشوفينية، التي كان عنوانها: (اذا بلغ الفطام لنا صبي ..تخر له الجبابر ساجدينا!)، مستبدلا بها الأممية الإنسانية، وشعارها: هداية الأمم لما فيه خيرها.
فإلى جانب فكرة الثورة العربية الكبرى، شجع الإنكليز والفرنسيون أيضا تشكيل الأحزاب القومية، ووجدوا حماسة كبيرة لدى المتعصبين تاريخيا ضد الإسلام، كما ساهم الأمريكيون بدور مشهود في رعاية الحركات القومية المختلفة من خلال (المدرسة البروتستانتية) التي أسسها المبشر الأمريكي (دانيال بلس) ثم سميت الجامعة الأمريكية.
هكذا تمكن الغرب من استغلال محبة العرب لقوميتهم واعتزازهم بها، لكن بدلا من أن تتوجه الحركات السياسية القومية المنهج الى تحقيق الوحدة، تركز همها على مناوءة متبني استعادة الدولة الإسلامية.
كما لعب الغرب على الطرف الثاني، فبعد أن ضمن ولاء الأنظمة السياسية، واطمأن الى صدق نيتها في التصدي للمشروع الإسلامي، درب أجهزتها الأمنية على اقتناص ضعاف النفوس من مشايخ السلاطين، ومن ذوي العقول المريضة (المتشددين)، وبإغراء المال والمناصب كونوا جماعات عريضة من هؤلاء، مثل الوهابيين المداخلة في الجزيرة العربية، وجماعة التكفير والهجرة في مصر، وجماعة الأحباش في بلاد الشام..الخ.
هكذا نشأت جماعات متعددة تحت غطاء السلفية، كانت وظيفتها المحافظة على الأنظمة العميلة والدفاع عنها، والتصدي لمن يدعون الى قيام دولة إسلامية.
طوال القرن العشرين كانت كل الأمور مختلطة، لا يعرف فيها المخلص من العميل، فمن كان يشكك بأن الأمة تعيش مرحلة التحرر الوطني من الإستعمار كان يعتبر خائنا، وظلت أهازيج: (أمجاد يا عرب أمجاد) تلهب المشاعر، وتنيم الناس على أوهام العزة والمجد.
وما استطاعت سلسلة الهزائم التي ألحقها النظام العربي بالأمة أن توقظ الناس من أوهامها، فظلوا يعقدون الآمال على من يسمون القوى الوطنية بأنهم يتمثلون آمالهم ويحسون بآلامهم، الى أن بلغ اليأس مداه، فتفجرت الثورات الشعبية التلقائية عام 2011 فيما هذه القوى منشغلة بصراعاتها الداخلية على المكاسب.
أول امتحان لها كشفت انتهازيتها، لسعيها لركوب الموجة وقطف الثمار التي باتت في متناول أيديها، وتصارعها فيما بينها، ففاز الأقوى بالكعكة، ومن خسر بدل أن يتحول لمعارضة الفائز، وتحيّن الفرصة للقفز الى الحكم بدلا منه، كما هي سمة الأنظمة الديمقراطية التي يقولون أنهم يؤمنون بها، فقد اختار الإصطفاف مع الأنظمة الطاغوتية التي طالما سامت شعوبها الخسف، نكاية بالطرف الآخر.
مما سبق نستخلص أن معيقي نهضة الأمة، ليس الأنظمة فقط، بل الطرفان المتطرفان: المتعصب ضد الإسلام، والمتدين المتطرف الذي حرف التدين عن مقاصده وجعله في خدمة السلطان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى