الحياة مدرسة

#الحياة مدرسة
د. هاشم غرايبه
كان ثمة عقرب يقف عند حافة جدول يريد أن ينتقل الى الضفة الأخرى مترددا يخشى الغرق، رأته سلحفاة فأشفقت عليه فقالت: إصعد على ظهري وسأنقلك ولا أريد منك أجرا على ذلك، لكن شرطي عليك أن لا تلسعني، فوافق شاكرا لكنه في منتصف الطريق لسعها، فصرخت به لماذا فعلتها ياغبي؟ ألا تعلم أننا سنموت كلانا، فردّ عليها: أعلم لكن ذلك من طبعي فلم أقدر على مغالبته.
القصة رمزية، ومغزاها أن النفس الأمارة بالسوء طبعها الغالب هو اللؤم، ودافعه الإضرار بالغير رغم أنه قد يضر بصاحبه أكثر مما يضر بغيره.
في الواقع لا يوجد عند الكائنات الحية لؤم وحقد، فلا يمكن أن يؤذي كائنا حياً آخر بلا مبرر حقدا على ظفره بطريدة دونه، أو حسدا من عند نفسه على تفوقه عليه في قدراته، فالكائنات المفترسة لا تقتل إلا صيدها، لأن تلك هي وسيلتها الوحيدة للحصول على الطعام، أما السامة منها فهي أيضا وسيلتها للحصول على الطعام أو دفاعا عن النفس، ولا يمكن أن تبدد سمها لغير هاتين الغايتين اللتين هما غريزيتان فأصبحتا طبعاً غالباً.
من يفعل ذلك هو الإنسان فقط، فهو قد يؤذي من غير أن يكون لأذاه فيه نفع مباشر له، فيلجأ الى ذلك بدافع الحسد أو الرغبة في تنحية المنافس طمعا في الإستفراد بمكسب.
رغم ذلك فاللؤم ليس طبعا من طباع الإنسان الطبيعي، وإنما هي حالة عارضة، لا تظهر إلا إن حضرت الظروف المهيئة لها وهي على الأغلب متعلقة بالشخص ذاته وليس بالمحيط، فالذي تحكمه هذه الحالة يكون ابتداء شخصا سلبيا يفتقد الإقدام والشجاعة وتعوزه القدرات العقلية العادية التي تعين الإنسان على تخطي العقبات والتعامل مع الحدث بما يناسبه، فتتكون في نفسه حسرة على ما ينقصه أو ما فشل في الحصول عليه، فتتكون عنده عقدة الشعور بالنقص، والذي هو إحساسه بالدونية، لما يرى لدى الآخرين من أقرانه من نجاحات بتجاوز ما اعترضهم، فيصبح نجاح هؤلاء في دخيلته رمزا لفشله.
ولمّا لا يمكنه تعويض هذا الفرق البائن بينه وبينهم، تتحول الحسرة لديه من لومه ذاته لضعف نفسه، الى حقد على المحيط، ويتبلور ذلك بشكل حسد على ما حباهم الله به وحرمه منه، وبالتالي لا يُبرّد ذلك الغليل عليهم غير نزول الأذى بهم، فيتمنى لهم المصائب، وإن لم تقع يبادر الى تصرفات توقع الضرر بهم…هذا هو اللئيم.
أذكر في أيام دراستي الجامعية في بغداد، عام 1971 كنت في السنة الأولى، وكعادة الطلبة كنا نتجادل في السياسة والتوجهات الحزبية، كان أغلب الطلاب عندما يطلب إليهم الإنضمام الى حزب البعث يستجيبون، خوفا وطمعا، أنا لم أكن مقتنعا بالأحزاب الموجودة جميعا لما أعرفه من ممارساتها، فلم أستجب وبقيت مستقلا، رغم أن ذلك حرمني من الحصول على المنحة الدراسية مثلهم.
في نقاشاتنا لم يكن أغلب هؤلاء يمتلكون الثقافة والإطلاع، للصمود في النقاش، فتولد لدى بعضهم الحسد، ومنهم زميل لي في السكن، فسولت له نفسه لأن يكتب تقريرا الى مسؤوله الحزبي، وشاية أنني أحمل أفكارا شيوعية تهدد أمن النظام.
كان من المعروف في العراق وسوريا أن الحزبي هو عنصر أمني، وتقاريره تعتبر من مخبر صادق، وكانت أرحم العقوبات على تلك التهمة هي الطرد من الجامعة والتسفير، وقد تصل الى السجن لعدة عقود أو الإعدام إن ثبت أنه منظم حزبياً، ويبدو أن الله أعمى قلبه عن اتهامي بأنني أحمل أفكارا إسلامية، لأن العقوبة عندئذ تبدأ بالإعدام.
لكن يبدو أن عناية الله بي أنقذتني، فقد أوقع التقرير في يد صديق قبل أن يصل الى المراجع العليا فأتلفه.
لم أراجع الواشي في الأمر، خوفا من انكشاف الشخص الذي انقذني، واكتفيت منه لأن فعله ذاك كان اعترافا منه بدونيته أمامي، وتركت أمره لله امتثالا لقوله تعالى: “وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”.
تخرجنا كلانا، ودخلنا معترك الحياة، ويوما بعد أزداد يقينا أن لؤمه قد جنى عليه، فالدوافع لتزايد حسده لي ولغيري تزداد ولا تنقص، فيما بقي هو مغمورا، لم يرفع الله له قدرا ولا فتح عليه علما.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى