أن تكون غريباً في وطنك …!!! / محمود العايد

أن تكون غريباً في وطنك …!!!
في الغربة تحلو الرواية والحكاية بين جدران الصمت، وأنين الأوجاع، وموت الأضلاع، وانعدام نكهة الأفراح، وتغرد الطيور خارج السرب في السماء بلا أدنى مقومات الجمال، أن تكون مغترباً بكل تأكيد لن تشعر بنكهة الأشياء التي تمتلكها بحوزتك حتى وإن كانت ثمينة وذات قيمة، وستفضل الحياة البائسة الشاقة وكسرة الخبز الناشفة على كل ما تملك في غربتك، وماذا يعني أن تفقد حبيباً أو قريباً وأنت في الغربة؟
ستعشر وقتئذٍ بالوجع والألم الذي لن تشعر به لو كنتَ تعيش في جنبات وطنك، وإذا أُصبتَ بوعكةٍ صحيةٍ عارضةٍ في الغربة مهما كانت خفيفةً ستشعر عندئذٍ بأنها مرضٌ جسيم وأوّل ما سيتبادر إلى ذهنك الوطن وسيأخذك الحنين إليه بكلِّ لهفةٍ وشوقٍ، وفي الغربة تختلف الشهور عن الشهور عمّا كانت عليه في الوطن، وتنقلب الأيام عن الأيام، وتتبدل السنوات عن السنوات، فتصبح الثواني ساعات، والساعات سنوات، والسنوات عقوداً ودهوراً
في الغربة يكون للكلمة معنىً ومغزى، وللهمسة صدىً ورنةً، وللصحراء القاحلة منظر آخر يدعوك للتأمل في تصدعاتها وما تبقى من أشواكها، وللمدينة شكل مختلف تماماً ليس كذلك الشكل الذي كنتَ تراه في طفولتك ورسمته لمستقبلك، حتى الحديقة التي كانت أحلى مكاناً لقضاء وقتك ستشعر بأنها سجنٌ واسعٌ وله قضبان متحركة، وستدرك بأن للحرية قيودٌ يستحيل تكسيرها وخطوطٌ لا يمكن تخطيها أو تجاوزها
في الغربة لا شمس زاهية ولا نور ساطع ولا فرح تغمره السعادة ولا سرور دائم، في الغربة تشتد الأزمات رغم بساطتها، وتتكاثر المصائب والويلات دون أن تدرك ماهيتها وتعرف أسبابها، وتصبح الألوان لوناً واحداً داكناً فلا فرق بين أحمر وأزرق وأخضر وأبيض كلها سواءً بسواءٍ ويكأنها سوداء، في الغربة لا معنى للشَّدّة والهمزة، وللسكون والفتحة، وللكسرة والضمة
في الغربة حياة الوحدة، والعيشة النكدة، والأيام الصعبة، واللقمة المُرَّة، في الغربة ستدرك ألا حياة تشبه حياة الوطن الذي ترعرعت فيه فكان بمثابة الأم الرؤوم والأب الحنون ويبقى المغترب بمشاعره الجياشة وأشواقه المتعطشة يُفضل دائماً نار الوطن وجحيمه على جنة الغربة ونعيمها، فالوطن الذي فيه الأهل والخلان وأجمل الذكريات التي لا يمكن نسيانها وطي صفحاتها بكل سهولة وببرودة أعصاب ومن الاستحالة أن تنساه وتنسى ذكرياته، وعند كل ذكرى تتعلق بالوطن ستذرف الدموع تلو الدموع وتتمنّى أن تمضي بك الأيام مسرعة لتعود إليه وترتوي من أحضانه وتلامس جدرانه، وكم هي الدعوات التي كنتَ تدعو الله عزّوجل بها بألا يقبض روحك في الغربة، وربما كتبتَ وصيةً إذا أخذ الله عزّوجل روحك في الغربة أن يدفنوا جسدك النحيل في ثرى الوطن الذي احتواك صغيراً
هذا ما عرفناه عن الغربة بالمفهوم المتعارف عليه، ولكن ماذا يعني أن تكون غريباً في وطنك؟ وهل سمعت بمن يعيش داخل وطنه وبين أهله مغترباً؟
عندما كنا صغاراً كنا نرى أن الغربة هي مغادرة الشخص لأرض الوطن بجسده وبقاء روحه معلقة فيه ولكن عندما كبرنا أدركنا أن للغربة مفهوماً آخر أشدُّ قسوة وضراوة من المفهوم الذي كان عالقاً في أذهاننا عندما كنّا صغاراً ويا ليتنا بقينا صغاراً ولم نكبر حتى لا ندرك بعض المفاهيم على حقيقتها، أوليس الغربة في الوطن أشد قسوة من الغربة التي تتعدى جدرانه وحدوده الجغرافية ؟
وفي وطني غربة لها حكاية ورواية تشبه تفاصيل الحكايات والروايات لكنها تختلف تماماً عنها، وبين طياتها قصةٌ تحتار منها الأذهان ويشتعل الرأس منها شيباً، ولطالما سمعنا عن قصص المغتربين عن أوطانهم عنوةً أو بحثاً عن حياةٍ أكثر رخاءً، لكننا لم نسمع بمن يعيشوا في أوطانهم غرباء، كبرنا وآخر ما توقعناه بأن نكون من هؤلاء ونعيش غرباء في الوطن الذي فيه نشأنا وكانت فيه أجمل ذكرياتنا
هذا آخر ما كنا نتوقعه بأن نحيا غرباء بين الأهل والخلان، تماماً حالنا أصبح كالذي يعيش جسداً بلا روحٍ في الوطن أو روحاً بلا جسدٍ، وما أقسى أن تحيا هذه الحياة، ما أقسى أن تعيش في وطنك غريباً ولا تجرؤ بأن تعبر عن وجهة نظرك، وتختار من يمثلك، و تحصل على أدنى حقوقك، وترى فيه بصيصاً من العدل أو بقايا أمل، ما أقسى أن يُمارس الظلم عليك في وطنك فتهضم حقوقك فيه ولا تستطع بأن تدفع الظلم عنك، وما أقسى أن تعيش فيه بلا مأوى ولا زادٍ وبلا كرامة وبلا أدنى مقومات الحياة الكريمة، وما أقسى أن تكون فيه فقيراً من كل شيء وقد قال عمر الفاروق رضي الله عنه في الفقر مقولته الشهيرة ” لو كان الفقر رجلاً لقتلته ”
رحم الله الفاروق فقد كان يدرك خطورة الفقر على الفرد والمجتمع والأمة، وهذا إن دلَّ فإنما يدل على وعي المسؤول بخطورة انتشار الفقر في أوساط المجتمع وأنه قنبلة موقوتة فإذا انفجرت وانتشرت، فإن المجتمع بأسره ستتفشّى فيه الرذيلة وتقل فيه الأمانة وينعدم فيه الأمان، وعندما تشعر بأنك لا تستطيع أن تأمن على نفسك ولا تثق بجارك وأصدقائك ولا تشعر بالانتماء لجدران وطنك التي كنتَ تتوكأ عليها يوماً ما وقت عجزك ومتى ما حدث ذلك وشعرت به ستدرك وقتئذٍ أنك تعيش غريباً في وطنك
واليوم عليك أن تنظر لجدران وطنك بتمعنٍ وتأملٍ فإذا شعرت بالوحدة والغربة في آنٍ واحدٍ فعليك أن تدرك بأنك تعيش غريباً في وطنك، دلائلٌ كثيرةٌ لا حصر لها تدرك من خلالها أنك غريبٌ في وطنك، وإذا وجدت لصوص الليل ينهبون ثرواتك، ويسلبون حقوقك، ويبيعون قوتك، ويتاجرون بإنسانيتك، ويسرقون ثروات وطنك، ثم يطلبون منك أن تكون وطنياً خالصاً ومخلصاً لوطنك فأعلم أنك تعيش غريباً في وطنك
وماذا يعني بأن تعطي وطنك كل ما تملك ولا يعطيك أدنى حقوقك هذه يعني غريب فيه، يا لصوص الليل ماذا أبقيتم لنا من الوطن حتى نشعر ولو للحظة بأننا لا نعيش غرباءً في أوطاننا وأوساط أهالينا، سنبقى محبين لأوطاننا لأن محبتنا لها نابعةٌ من الإيمان الراسخ، وأنتم ستبقون ما بقيتْ الحياة أعداءً لنا يا من جعلتمونا نشعر بالغربة والوحدة في أوطاننا.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى